في محراب الحياة

  • 2018-11-30
  • عمان
  • مسجد طيبة

في محراب الحياة


الخطبة الاولى

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلُّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته.


الازدواجية في حياة كثير من المسلمين
الازدواجية في التعامل
أما بعد؛ فإن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يجد أن كثيراً منهم قد وقع في ازدواجيةٍ سيئة، في ازدواجيةٍ مقيتة، حيث تجد كثيراً من المسلمين تجدهم مسلمين في العبادات لكنهم في المعاملات بعيدون كل البعد عما أمر الله به وعما جاء في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجد شخصاً يصلي في المسجد لكنه يغش المسلمين في تجارته، تجد شخصاً آخر يؤدي العبادات لكنه يؤذي جيرانه ويسيء تعامله مع الخلق، هذه الازدواجية في التعامل، هذه الازدواجية بين واقع المسجد وواقع السوق، بين واقع العبادة وواقع المعاملة، هذه ليست من الدين في شيء.
أيها الإخوة الكرام: إن المطلوب منا جميعاً أن ننتقل من محراب العبادة إلى محراب الحياة فكما أننا في المسجد في محراب العبادة فينبغي أن نكون كذلك في محراب الحياة فنحسن التعامل مع الناس.
السفر يسفر عن أخلاق الرجال
أيها الكرام: عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام طلب من رجلٍ أن يأتيه برجلٍ يعرفه جيداً ليضمنه في مسألةٍ ما، قال له: ائتني برجلٍ تعرفه حق المعرفة، جاءه برجل فسأله فقال: هل هو جارك الأدنى؟ قال: لا، ليس جاراً لي، قال: إذاً لعلك سافرت معه، فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال، ولذلك سمي سفراً، قال: لعلك سافرت معه، قال: لا، قال: إذاً لعلك عاملته بالدرهم والدينار، فهنا يظهر الرجال على المحك، قال: لا، قال: إذاً لعلك رأيته في المسجد يرفع رأسه ويخفضه، قال: نعم، قال: فإنك لا تعرفه، لقد جعل عمر المقياس في معرفة البشر هو التعامل، لذلك قالوا: " الدين المعاملة "، وهذا ليس حديثاً لكنه جرى على ألسنة الناس ومعناه صحيح، فالدين كل الدين في المعاملة.

المعاملة الطيبة هي هدف العبادات في الإسلام
أيها الكرام: في ديننا الصلاة ليست حركاتٍ وسكناتٍ تؤدى بلا معنى، حاشا لله تعالى أن يأمرنا أن نؤدي حركاتٍ وسكناتٍ وانتهى الأمر، إنما الصلاة لا بد أن تثمر حقاً وصدقاً وأمانةً وحباً وعفافاً، قال تعالى:

إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ
(سورة العنكبوت: الآية 45)

لا بد أن تنهى الصلاة عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ.
الصيام ليس جوعاً وليس عطشاً، لكنه رقيٌّ في مدارج التقوى، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(سورة البقرة: الآية 183)

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:‏ رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ }

(صحيح ابن ماجه)

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:‏ مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ }

(صحيح البخاري)

(قول الزور): الكذب والبهتان.
الزكاة أيها الأحباب؛ ليست ضريبةً ماليةً يدفعها الإنسان وهو مجبرٌ عليها كما هي الضرائب التي تثقل كاهل الناس، إنها طهارةٌ ونموٌ وزكاةٌ للنفس، قال تعالى:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا
(سورة التوبة:الآية 103)

الزكاة تطهر نفس الغني
إنها تطهر نفس الغني من أن يقع في الشح، وتطهر نفس الفقير من أن يقع في الحقد على المجتمع الذي نسيه، إنها زكاة أي نماء تنمو بنفس الغني فيشعر أنه معطاءٌ في مجتمعه، وتنمو بنفس الفقير فيشعر أن مجتمعه لم يتخلَّ عنه وأنه يحبه ويرعاه، الصدقة الزكاة طهارةٌ ونماء.
الحج في الإسلام ليس سياحةً ولو كان سياحةً لجعله الله تعالى في بلدٍ كثرت فيه المياه العذبة وكثرت فيه الأنهار وكثرت فيه الجبال الخضراء وما أكثرها في ديار الله، لكن الحج أيها الأحباب رقيٌّ في مدارج معرفة الله.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
(سورة البقرة: الآية 197)

هذا هو المنهي عنه بالحج: الرفث: وهو الكلام بغير حياء في أمورٍ لا ينبغي أن نتكلم بها من أمور النساء، (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) أي لا خروج عن منهج الله (وَلَا جِدَالَ) لأن الجدال يولد العداوات.
أذاً أيها الأحباب: إذا نظرنا في عباداتنا كلها وجدنا أنها من أجل المعاملة، من أجل أن ينتقل المسلم من المسجد فيخرج نظيفاً فيتعامل مع الناس معاملةً راقيةً.

دور المسجد في المعاملة الطيبة
تلقي التعليمات في المسجد
أيها الكرام: نعم الدين المعاملة، المسجد أيها الأحباب؛ يتلقى فيه المؤمن تعليمات الصانع جلَّ جلاله، يتلقى فيه تعليمات ربه كما نفعل الآن في هذه الخطبة الطيبة نعرف التوجيهات وفي دروس العلم ثم نخرج إلى الحياة، وفي محراب الحياة يكون الدين، دينك ليس في المسجد، فالمسجد مكانٌ تتلقى فيه التعليمات ثم تخرج إلى الحياة فتمارس دينك ثم تعود إلى المسجد من جديد على صلاة العشاء مثلاً لتتلقى تجليات ورحمات الله تعالى، ففي المسجد نأخذ التعليمات، وفي المسجد نقبض الجائزة من الله تعالى، أما الدين فتجده مع جارك

{ وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: أَن النَّبيَّ ﷺ قَالَ: واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ }

(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)

{ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ }

(رواه أحمد بن حنبل)


انتشار الإسلام كان بسبب القيم والأخلاق التي اتسم بها المسلمون
الدين معاملة
أيها الأحباب؛ أيها الكرام: النجاشي لما استدعى جَعْفَرَ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ليسأله عن الدين الذي فارقت به بعض قريشٍ قومها قال: ما هذا الدين الذي جئتم به؟ فَقَالَ لَهُ: (أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فينا رجلاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ) هذا الذي دفعهم إلى الدين، (نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ) والنسب توج هذه الثلاثة، قمم الأخلاق؛ أمانةٌ في التعامل، صدقٌ في الحديث، عفافٌ عند الشهوات، هذا هو المسلم، إن حدثك فهو صادق، إن عاملك فهو أمين، إن واجه شهوةً من مالٍ أو نساء فهو عفيفٌ لا يأكل قرشاً من حرام ولا يأخذ نظرةً من حرام، هذا هو الدين، قال: (نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، ونترك مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ) هذا الذي أمرنا به، هذا هو الدين أيها الأحباب؛ الدين أمانة، الدين صدق، الدين معاملة، وما فتح النبي صلى الله عليه وسلم البلاد، وما فتح الصحابة من بعده البلاد، وما وصلت رايات المسلمين إلى مشارق الأرض ومغاربها إلا عندما فهموا الدين على أنه معاملةٌ صادقةٌ وأمينةٌ مع الخلق.

قصة ثمامة بن أثال
الأسير في الإسلام
هذا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ وهو سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ يخرج من قومه إلى مكة، وفي الطريق وأثناء حربٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأسر سريةٌ ثمامة وتأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشرك، فيأمر النبي بوضعه على ساريةٍ في المسجد، لماذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لأنه يريد أن يريه أخلاق الإسلام وتعامل الإسلام وكيف هم أهل الإسلام، مر عليه في اليوم الأول وقَالَ: (كيف أجدك يَا ثُمَامَةُ؟) كيف أنت؟ قال: (إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ) إن أردت العفو عني فأنا شاكرٌ لك، (وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ) له من يثأر له، (وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ) هي خياراتٌ ثلاث، تركه ومضى، وكان الصحابة كلما جاء وقت الطعام جاؤوا له بطعامهم ليأكل من طعامهم، ورعوه حق الرعاية كما يعامل الأسير في الإسلام، في اليوم الثاني مر عليه رسول الله قال: كيف أنت يا ثمامة؟ فَقَالَ: ما عِنْدِي إلا ما قُلْتُه لَكَ بالأمس، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، تركه ومضى، وفي اليوم الثالث مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قال: ما قلت لك بالأمس، فما الذي اختاره رسول الله؟ هل اختار أن يقتله؟ لا، هل اختار أن يطلب منه مالاً؟ فيوصل إليه رسالةً مباشرة أن هذه الدعوة إنما تقوم بالمال

قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
(سورة الشورى: الآية 23)

اختار أن ينعم عليه، التفت إلى أصحابه فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فما كان من ثمامة؟ ذهب إلى مكانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ وتطهر ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ على رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَقد كنت أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، عمرةً على الشرك، فَمَاذَا تأمرني لأصنع؟ قال: اذهب واعتمر، ولكن عمرةً على التوحيد، ثم ذهب إلى قومه وضرب عليهم حصاراً اقتصادياً وقال: والله لا تصلكم حبةٌ من حنطة، لقريش، لأن اليمامة كانت تأتيهم بالحنطة، حتى تكفوا عن أذى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ثم بأخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم أمره أن يفك الحصار عنهم وهم الذين آذوه ونكلوا به وبأصحابه.
أيها الكرام: إذاً فعلاً الدين هو المعاملة، الدين في السوق، الدين مع الجيران، الدين أيها الأحباب؛ أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك.

قاعدة ذهبية للتعامل بين الناس
عامل الناس كما تحب أن يعاملوك
قاعدةٌ أيضاً نكررها على الألسنة كثيراً وهي ليست حديثاً ولكن لها شاهدٌ في حديث رسول الله، يقولون: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم يقول: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ) هنا موطن الشاهد (وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) ما الذي تحبه من الناس؟ ألا تحب أن يؤدى إليك حقك إذاً أدِّ للناس حقوقها، هذه هي المعاملة ببساطة، ألا تحب أن يعاملك صهرك معاملةً راقيةً إذا زوجت ابنتك؟ إذاً عامل بنات الناس معاملةً راقيةً إذا زوجت أبناءك أو بناتك، هذه هي المعادلة، المعادلة أن الإنسان يحب شيئاً فينبغي أن يفعل الشيء الذي يحب أن يُفعل معه، والنبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يبين هذا الأمر والله تعالى يعاملنا بهذا المنطق، ألم تسمعوا حديث المصطفى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ }

(رواه البخاري)

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ }

(رواه الترمذي)

{ عَنْ أَبِي صِرْمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ }

(رواه أبو داود)

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِما سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَ حَفَّتهُمُ المَلاَئِكَة، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبَطْأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ }

(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

{ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صَعدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ }

(رواه الترمذي)

{ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

(رواه الترمذي وأحمد)

{ مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ }

(رواه الإمام أحمد)

{ وعن أَبي إِدريس الخَولانيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ، فَإِذَا فَتًى بَرَّاقُ الثَّنَايَا، وَإِذَا النَّاسُ مَعهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا في شَيءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ، ووَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صلاتَهُ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ للَّهِ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ، فَأَخَذَني بِحَبْوَةِ رِدَائي، فَجَبَذَني إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: قالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتَجالِسِينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَباذِلِينَ فيَّ }

(حديثٌ صحيحٌ رواه مالِكٌ)

هذه الأحاديث، وفي القرآن الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ
(سورة المجادلة: الآية 11)

الجزاء من جنس العمل، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، هذه قاعدةٌ ذهبية.

ضرورة تلازم العبادة مع المعاملة
أيها الأحباب الكرام: ختاماً لا بد من ملاحظةٍ مهمةٍ، على الجانب الآخر، الجانب الأول كما قلنا: إنسانٌ يصلي في المسجد لكنه يؤذي المسلمين خارج المسجد وهذه خطيئةٌ وجريمةٌ، امرأةٌ محجبةٌ حجاباً إسلامياً لكنها تغتاب المسلمات والمسلمين بلسانها، هذا خطيرٌ جداً.
تكامل العبادة مع المعاملة
على الجانب الآخر جانبٌ لا يقل خطورةً شاع في هذه الأيام، شخصٌ تقول له: لماذا لا تؤدي الصلوات؟ يقول لك: إيماني في قلبي، أنا أعامل الناس، الدين المعاملة، أنا لا أصلي لكن معاملتي مع الناس طيبة دعك من الصلاة، امرأةٌ لا تلتزم الحجاب الشرعي تقول لها: ما هذه المعصية؟ أنتِ تتركين أمراً من أوامر الله، تقول لك: إيماني في قلبي، المهم أنني أعامل الناس بشكلٍ جيد، هذه جريمةٌ شرعيةٌ وتلك جريمةٌ شرعيةٌ، هذه خطيئةٌ وتلك خطيئةٌ، فالدين المعاملة هذا صحيح، ولكن لا بد من أداء العبادات لأنها هي التي تثمر روحاً طيبةً تدفع الإنسان إلى معاملةٍ راقيةٍ، لا بد من العبادة ولا بد من المعاملة فكلاهما شرطٌ لازمٌ غير كافٍ.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكلنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل عصيانك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، أطعم جائعهم، واكسُ عریانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.