• محاضرة في الأردن
  • 2021-05-31
  • عمان
  • الأردن

سيد الاستغفار

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

الفرق بين العفو والمغفرة والاستغفار:

{ عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: سَيِّدُ الاستغفار أَن يقول العبدُ: اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي، لا إِلهَ إِلا أنتَ، خَلَقْتَني وَأَنا عبدُك، وَأَنَا على عَهْدِكَ ووَعدِكَ مَا اسْتَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنعْمَتكَ عَليَّ، وَأَبُوءُ لك بِذَنْبي، فاغْفِر لِي ذُنُوبي، فَإنه لا يغفرُ الذنوبَ إِلا أنتَ. مَن قالها من النَّهَارِ مُوقِناً بها، فماتَ من يومه قبلَ أَنْ يُمسيَ فهوَ مِن أهلِ الجنة، ومن قَالها من الليل وهو مُوقِنٌ بِهَا فماتَ قبل أَن يُصبِح فهو من أَهلِ الجنة }

[أخرجه البخاري والترمذي والنسائي]

هذا الحديث هو محور لقائنا لهذا اليوم، لفت نظري فيه أنه سيد الاستغفار.
الاستغفار هو طلب المغفرة
الاستغفار له صيغ عديدة: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، نقولها بعد الصلاة، أستغفر الله العظيم، أستغفر الله، له صيغ عديدة وردت في السنة، لكن هذه الصيغ لها سيد، هناك سيد البيت، سيد المجتمع، سيد البلد، والله تعالى هو السيد المطلق، من أسمائه السيد، فالاستغفار له سيد وهذا سيد الاستغفار، الاستغفار طلب المغفرة، إذا جئت بالفعل الثلاثي، وزدت في أوله همزة وسيناً وتاء يصبح للطلب، تقول: طَعِمَ أي أكل، استطعم أي طلب الطعام، سَقىَ استسقى، كَتَبَ استكتب، ذهبت إلى شخص وقلت له: اكتب لي، طلب الكتابة.
فالاستغفار طلب المغفرة، أن تطلب المغفرة من الله، ما المغفرة ؟ الفعل الثلاثي غفر، غين، فاء، راء، غفر، الغفر يأتي من الستر، غفر من ستر، المعنى الستر، كيف نقول: جمع غفير، إذا توقف جمع كبير من الناس يقال: جمع غفير، لماذا جمع غفير؟ لأنهم ستروا وجه الأرض، لم تعد ترى الأرض، ترى الناس فقط، جمع غفير، وكذلك المغفر الذي يضعونه على الرأس من أجل أن يقيهم من الصدمات، أو من أي شيء، سموه مغفراً لأنه يستر الرأس ويحميه.
فالاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة تنبئ عن الستر، وعندنا عفو، في ليلة القدر، نقول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني، العفو هو الإزالة، فالمغفرة ستر، والعفو إزالة، فنحن نطلب المغفرة والعفو من الله، فالله تعالى غافر، وغفّار، وغفور، وعفوٌ جلّ جلاله.
بعض العلماء قال: المغفرة أبلغ من العفو، على خلاف لن ندخل فيه، العفو ينبئ عن الإزالة، والمغفرة تنبئ عن الستر، فالله تعالى يغفر ذنبك بمعنى يستره عليك، ثم ينسيه حافظيك، والملائكة، والناس أجمعين، يستره عليك، وفي الحديث الشريف أن الله تعالى يوم القيامة:

{ عن صفوان بن محرز المازني رحمه الله قال: بينما ابنُ عمرَ رضي الله عنه يطوف إذ عرضَ له رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أخبرني ما سمعتَ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في النجوى، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُدْنَى المُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ - وَقَالَ هِشَامٌ: يَدْنُو المُؤْمِنُ - حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ يَقُولُ: أَعْرِفُ، يَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ، فَيَقُولُ: سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ }

[أخرجه البخاري ومسلم]

هو الستير جلّ جلاله، والغفور، والعفوُّ، فالاستغفار؛ طلب المغفرة من الله، والاستغفار له صيغة عظيمة عند الله، هذه التي نريد أن نتعلمها من هذا اللقاء الطيب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن قالها مُوقِناً بها) من قلبه، واليقين يحتاج إلى فهم المعنى، إذ كيف تتيقن مما تقوله إن لم تكن قد أبحرت في معاني هذا الكلام الذي تقوله حتى لا يصبح الكلام مجرد كلمات نرددها ولا ننتبه إلى معناها ؟

الافتقار إلى إمداد الله والاعتراف بربوبيته:
سيد الاستغفار: (اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي) اللهم ؛ هو نداء، دعاء، أي يا الله، إما أن نقول: يا الله، أو أن نقول: اللهم، الميم المشددة بدل عن (يا) النداء، إما أن تقول: يا الله، أو اللهم، أما يا اللهم فممنوع، لأنك تكون قد جمعت بين المبدل والمبدل منه، وهذا من خصائص اسم الجلالة أنه ينادى بميم مشددة بدلاً من (يا) النداء، أما إذا أردت أن تنادي خالداً فتقول له: يا خالد، لا أستطيع أن أقول: خالدم، إلا اسم الجلالة من خصائصه في اللغة العربية أنه ينادى بميم مشددة، فتقول: اللهم، أي كأنك تقول: يا الله.
الرب هو المُمِدُّ
(اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي) الرب هو المُمِدُّ، الذي يمدك بما تحتاجه، فهو رب العالمين لأنه يربي الخلائق كلَّها، تربية رب العالمين على نوعين، إمداد جسمي، وإمداد نفسي، كيف ؟ الإمداد الجسمي واضح، وهو يمد الجميع، المؤمن وغير المؤمن، نحن اليوم أكلنا، وهذا الإمداد ممن ؟ من الله، هذه الشجرة التي نتفيأ ظلالها إمداد ممن ؟ من الله، هذا الحليب الذي جعله الله في البقر، وليد البقرة يحتاج خمس الحليب والباقي إمداد من الله لك أيها الإنسان، قال تعالى:

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
[ سورة النحل]

عندما يطول شعرك هذا إمداد الله عز وجل، عندما تعمل كليتاك هذا إمداد الله عز وجل، نحن في كل ثانية مفتقرون إلى إمدادات الله عز وجل.
سئل هارون الرشيد بكم تشتري كأس الماء ؟ قال: بنصف ملكي، قال: فإذا منع عنك إخراجه ؟ قال: بنصف ملكي الآخر، فقيل له: ما هذا الملك الذي لا يساوي شربة ماء أو إخراج شربة الماء!
فنحن مفتقرون إلى إمداد الله، بكل خلية من أجسامنا يمدها الله تعالى، فلو أنه جل جلاله أوقف إمداده لا يستطيع أن يمدك بالحياة مخلوق من المخلوقات، هذا معنى الرب، عندما تقول: (أَنتَ رَبي) تعترف بالربوبية، لأنه هو الذي يمدك بما تحتاجه، لكن تربية ربنا عز وجل لا تقتصر على الإمداد الجسمي، ليس الموضوع فقط أن الأعضاء تعمل، وأن الطعام يأتيك، وأن الماء موجود، هناك تربية أعمق، فهو يربي نفوسنا جلّ جلاله، فيكافئ المحسن، ويعاقب المسيء، يلقي في قلب المحسن شيئاً من الطمأنينة، والسكينة، والخير، ويلقي في قلب المسيء شيئاً من العذاب النفسي، تعذبه فطرته، هذه كلها تربية، كيف تربي ابنك في البيت ؟ إذا كنت تُطعمه وتشربه، وتؤمن له ملبساً ومسكناً ودواء إذا مرض، فأنت هنا تربي جسمه، لذلك يقال للأب رب الأسرة لأنه يمد الأسرة بما تحتاجه من طعام، وشراب، ومسكن، وملبس، لكن الأب لا يكتفي بذلك، إذا جاء ابنه من المدرسة ومعه قلم في محفظته، وهو لم يشتره له، من التربية أن يقول له: يا بني من أين هذا القلم؟ والله من رفيقي، هل رفيقك هو من أعطاك إياه أم أنت أخذته؟ يتابع الموضوع، حتى لا يتعلم ابنه السرقة، هذا ماذا يعمل؟ يربي، هذه هي التربية النفسية، ربنا عز وجل يربي نفوسنا، يربينا بالقرآن، يربينا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بمجلس علم، يهيئ لك كلمة طيبة، يهيئ لك صديقاً، يسمعك شيئاً لله، إذا أحسنت يلقي في روعك الخير، تشعر بسعادة، جرب إذا أحسنت - كلكم أهل إحسان وفضل - لإنسان تقول: والله بُت الليل وأنا مسرور جداً، من أين جاء هذا السرور؟ من الله، لأنه مربّ، وإذا أساء إنسان وهو صاحب فطرة سليمة، وأساء لإنسان يقول لك: والله ما نمت بالليل، شعرت بالضيق لأني قلت هذه الكلمة، هذه من يمد الإنسان بها؟ الله، فالله تعالى يربي الأجسام، ويربي النفوس، هذا معنى: (اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي) كل شيء يأتي من الله إمداد هذا من الربوبية، لكن الآن لا يكفي ذلك، لأن المشركين.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
[ سورة الزمر]

فأنت عندما تقول: (أَنتَ رَبي) جيد جداً، لكن هذه لا يستطيع أن ينكرها إلا المعاندون، الملحدون، نسأل الله السلامة، المشركون يقولون: (أَنتَ رَبي) لا يستطيع إنسان أن يتجاهل أنه بحاجة إلى الله في كل لحظة من لحظات حياته، لا يستغني عن رحمة الله ولا عن ربوبيته.

التوجه بالعبادة إلى الله عز وجل:
لكن نتابع قال: (اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي، لا إِلهَ إِلا أنتَ) أي لا أعبد إلا الله، لا أتوجه إلا إليه، يجب أن تؤمن أنه رب، وينبغي أن تؤمن أنه إله في الوقت نفسه، الرب يمدك، الإله هو الذي يسيّر هذا الكون.
أما اليوم تجد إنساناً فتقول له: من ربك؟ يقول لك: الله، تقول له: من يحكم العالم؟ يقول لك: أمريكا! كيف ناقضت نفسك؟! هو خلقك ويمدك، وترك الحكم لغيره، سلمه لجهة ثانية، معاذ الله ! حاشا لله أن يسمح لها أن تحكم العالم إلا لسبب ولحكمة، وفي اللحظة الذي يريد يسحب إمداده، فانتهت القصة بثانية.
لا تتوجه إلا إلى الله
كم من ملوك حكموا الأرض والله عز وجل قطع إمداده فجأة وانتقل الملك إلى جهة أخرى، فأنت إذا آمنت أنه رب هذا ممتاز ورائع، لكن هذا لا يكفي، ينبغي أن تؤمن بعد ربوبيته بأنه هو الذي يسيّر هذا الكون عندها لا تتجه إلا إليه، إذا كنت تسألني، تقول لي: يا شيخ إذا آمنت أنه هو رب وإلى آخره، ثم أنا أرى أن المتحكم بالعالم جهة ثانية، أين المشكلة؟ المشكلة أنك لن تتجه إليه ستتجه إلى الجهة التي تجد أن أمرك بيدها، الإنسان يتجه إلى أين؟ إلى من ينفعه ومن يضره: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) أن تدرك أن الله تعالى الذي يمدك بما تحتاجه، والذي يعطيك، والذي يهبك، والذي يربي جسمك، والذي يربي نفسك، أن تؤمن أنه لا معبود إلا الله بحق، فلا تتوجه إلا إليه، هنا يتحقق توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية معاً، تكون قد حققت التوحيد على كمالٍ، أما معظم البشر فتوحيد الربوبية واضح عندهم جداً، كل شيء من الله:

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
[ سورة النحل]

والله إن الله أغرقنا بفضله، غمرنا بنعمه، الحمد لله هذا كلام طيب جداً كلنا نقوله، لكن بعد ذلك ما الذي ينبغي ؟ ألا تتوجه إلا إليه، أما أن يغمرك بنعمه وبفضله، ثم بعد ذلك بعض الناس يتجهون إلى فلان، وإلى زيد، وإلى عبيد من الناس، ولا ينتبهون إلى توحيد العبادة لله تعالى، فهنا وقع خلل في التوحيد.
فلذلك سيد الاستغفار:(اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي، لا إِلهَ إِلا أنتَ) أي لا أتوجه بالعبادة إلا إليك.

المؤمن عزته ورفعته أنه لا يعبد إلا الله:
الآن: (خَلَقْتَني وَأَنا عبدُك) المعنى الأول نفسه بطريقة ثانية (خَلَقْتَني) هي الربوبية، هو الذي خلق، إذاً أنا عبد من ؟ عبده، لست عبداً لأحد من البشر.
الحرية مفهوم نسبي
صدقوا إخواننا الكرام، وهذه حقيقة، وأرجو أن أكون مبيناً لها: لا يوجد إنسان في الأرض حُر، ولعلي قلت هذا الكلام قبل ذلك، لا يوجد في الأرض إنسان حُر، قد يستغرب الكلام بعض الناس، يقول لك: نحن نطالب بالحرية، الحرية مفهوم نسبي، البشر في الأرض كلها حتى في البلاد التي تقول: نحن أولاد الحريات والديمقراطيات، في النتيجة هم يعبدون، ما معنى يعبدون؟ أي يتوجهون إلى جهات يظنون أن هذه الجهات تنفعهم أو تضرهم، الناس قد يكونون في بعض البلاد أحراراً في اختيار حاكمهم مثلاً، أو أحراراً في قيادة سيارتهم، أو أحراراً في اقتناء بيوتهم، عندهم مجموعة حريات، لكنهم مأسورون بالبنوك مثلاً، فهو لا يستطيع أن يتحرك حركة لأن عنده دفعات شهرية للبنوك، وبالنتيجة الحرية المطلقة غير موجودة، ودائماً في محصلة الأمر الإنسان يشعر بالضعف، ويحتاج إلى جهة يقوى بها، المؤمن فقط أحسن الاختيار فاتجه إلى الجهة الحقيقية التي تستحق أن تُعبد، وغيره عبدٌ لغير الله، لا تصدق أن هناك إنساناً ليس عبداً، لكن أنت عزتك ورفعتك أنك لا تعبد إلا الله، وغيرك يعبد الدولار، ويعبد الدرهم، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قال؟

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: تعِسَ عبدُ الدِّينار، وعَبْدُ الدِّرهم، والقَطيفةِ، والخميصةِ ـ عبد لبطنه ـ إن أُعطيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ }

[أخرجه البخاري]

(والقطيفة) هذا للباس، يقول لك: هذا الثوب ماركة عالمية، إلى آخره، أي يهتم بشكله، بهندامه.

المؤمن جعل الهموم كلها هماً واحداً:
الإنسان بمحصلة الأمر لن ينجو من مفهوم العبودية، بمعنى أنه يتجه إلى جهة ويظن أن هذه الجهة تنفعه وتضره، لكن المؤمن هو الذي تجرد لعبادة الله تعالى وحده فنجا من مئة عبودية وعبودية، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

{ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك }

[أخرجه الحاكم]

همُّ المؤمن الوحيد هو إرضاء الله تعالى
أنت تستيقظ في الصباح عندك هموم، من منا ليس عنده هموم؟ لكن المؤمن في الصباح يوحد الهموم، أنا همي الوحيد إرضاء الله، الآن صارت معي مشكلة بالحياة مع مديري في العمل، أنا همي إرضاء الله عز وجل، رضي المدير أم سخط، عندي مشكلة في البيت مع زوجتي، مع أولادي، أنا همي إرضاء الله، رضيَ من رضي وسخطَ من سخط، فالمؤمن وحَّد الهموم، جعل الهموم كلَّها هماً واحداً، همّ آخرته ومعاده أن يرضى الله عنه، وأن يصل إلى الآخرة بسلام فارتاح، قال: (ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك) أي عنده هموم الدنيا، يريد أن يرضي مديره، يرضي شريكه، يرضي زوجته، يرضي أولاده، يرضي رئيسه، عنده هموم متشعبة، فالنتيجة سيهلك ولن يبالي الله به، أما المؤمن فهمه همٌ واحد، فقال: (اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي، لا إِلهَ إِلا أنتَ، خَلَقْتَني وَأَنا عبدُك) العبودية لله تعالى، انظروا ماذا قال تعالى في القرآن:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
[ سورة هود]

متى أمرك الله تعالى أن تعبده وحده وأن تتوكل عليه وحده ؟ بعد أن قال لك: (الْأَمْرُ كُلُّهُ) بيدي.
أنت إذا جئت إلى مؤسسة، وزارة من الوزارات، عندك طلب على ورق تريد توقيعاً عليه، موافقة، قال لك شخص موثوق: هذا الطلب لا يوقعه إلا الوزير، لا يوجد حل، هذا الطلب من صلاحيات الوزير، الأمين العام لا يستطيع أن يوقعه هكذا يقول القانون، الوزير وحده يستطيع أن يوقعه، ما رأيكم بشخص جاء فوجد مستخدماً على الباب، والمستخدم على العين والرأس، لكن المقصود أنه هو أقل تحصيل علمي داخل المؤسسة، فجاء هذا المستخدم قال له: هل تستطيع أن توقع لنا هذا الطلب ؟ قال له: أخي هذا الطلب ليس عندي، أنا لا أستطيع أن أوقعه، أنا مهمتي تنظيف المكان، صعد لأعلى دخل إلى مدير الديوان، قال له: نريد أن توقع لنا هذا الطلب، لماذا ترهق نفسك وتذل نفسك للناس وطلبك لا يستطيع أن يلبيه إلا الوزير؟ اذهب إلى الوزير فوراً: (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ).
ربنا جلّ جلاله طلبك عنده، هؤلاء البشر جميعاً صور قد يسخرهم الله تعالى فيجيبون طلبك، وقد يمنعهم فلا يجيبون، هكذا يفهم المؤمن الحياة، فإذا صار معه شيء يفهم أن هذا من الله، وليس من البشر، وهذا لا يعني أبداً - انتبهوا - أن المؤمن يتطامن، أي إذا أساء أحد له يقول: هذه عقوبة لي، لا، يسير في الحياة، وإذا أحسن له يشكره.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: لا يشْكُرُ اللّه منْ لا يشْكُرُ النَّاسَ }

[أخرجه أبو داود والترمذي]

وإذا أحد أساء له ينتصر.

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
[ سورة الشورى]

لكن مفهومه أن الأمور في كل الحياة بيد الله وحده، فإذا أراد أن يقدم طلبه يتوكل على الله ثم يذهب لاتخاذ الأسباب.

الحكمة من تعطيل الأسباب أحياناً:
الأسباب لا تفعل فعلها إلا بإذن الله
لكن عند اتخاذ الأسباب لا يعتقد لثانية واحدة أن الأسباب تفعل فعلها، الأسباب لا تفعل فعلها إلا بإذن الله، النار تحرق أم لا تحرق ؟ اليوم إذا أشعلنا شيئاً ما، وكلنا قاعدون، كل واحد يجرب أن يشعل النار تحرق يده أم لا ؟ عندما أراد الله لها ألا تحرق قال لها:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
[ سورة الأنبياء]

عطل الأسباب جل جلاله، إذا تزوج رجل وامرأة، الوضع الطبيعي أن ينجبوا أولاداً، لكن هناك حالات:

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
[ سورة الشورى]

يعطل الأسباب، هناك حالة أخرى، تزوجا، جاء الولد، السيدة مريم عليها السلام ما تزوجت:

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20)
[ سورة مريم]

من غير علاقة حملت، لأنه هو رب الأسباب جلّ جلاله، لماذا عطل الله الأسباب بهذه الحالات ؟ إذا وضع الإنسان السكين على يده هل تقطع أم لا تقطع ؟

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
[ سورة الصافات]

الله عطَّل السبب، السكين لم تذبح إسماعيل عليه السلام، لماذا عطل الله الأسباب؟ حتى يقول لك: إياك أن تتوهم أن الأسباب تفعل فعلها وحدها، لا تقل: سأتزوج وسيكون هناك أولاد حتماً! قد تتزوج ولا يأتيك أولاد لحكمة يعلمها الله، هذا اسمه: تعطيل الأسباب حتى تؤمن أن مسبب الأسباب هو الذي يفعل ذلك جل جلاله، وهو:

فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
[ سورة هود]

ولا فعّال في الكون إلا الله جلّ جلاله، هذا التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.

علم التوحيد أعظم علم على الإطلاق:
التوحيد أعظم علمٍ تتعلمه
والله أيها الأحباب: أعظم علم في الأرض تتعلمه هو علم التوحيد، تقول لي: يوجد فيزياء نووية، أقول لك: لا شيء أمام التوحيد، وسنكتشف ذلك يوم القيامة، والله كل شهادات الدنيا أمام التوحيد لا تساوي شيئاً، وهذا ليس تصغيراً للعلم، وأهمية العلم في الإسلام، وفي الحياة كبيرة، لكن علم التوحيد هو أعلى علم، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
[ سورة الأنبياء]

ما معنى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) ؟ هذا حصر وقصر في اللغة العربية، أي لم يأتِ رسول إلى قوم من آدم إلى يوم القيامة إلا كانت معه فقط مهمتان؛ الأولى: (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا)، الثانية: (فَاعْبُدُونِ)، كل الأنبياء جاؤوا برسالة (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) منتهى العلم (فَاعْبُدُونِ) منتهى العمل، نهاية العلم التوحيد، ونهاية العمل العبادة، تقول لي: أنا أعمل، أحضرت، ذهبت، أخذت، إلى آخره، هذا كله عمل، ما أعظم عمل تعمله ؟ العبادة، أنا أتعلم، ما أعظم علم تتعلمه ؟ التوحيد، فيوم القيامة يكتشف الإنسان أن أعظم شهادة معه هي شهادة التوحيد، لأن الشهادات كلها تنفعه طبعاً لأنه خدم بها المسلمين، وعمّر بها الأرض، لكن لو أتى يوم القيامة بشهادات الدنيا كلها وما معه شهادات التوحيد:

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23)
[ سورة الفرقان]

التوحيد واحد، وكل ما تتعلمه أصفار، فإذا جاء الواحد مع صفر عشرة، مع صفرين مئة، مع ثلاثة أصفار ألف، وإذا أزلنا الواحد فالأصفار ليس لها قيمة، أعظم علم هو علم التوحيد.

العهد والوعد:
قال: (خَلَقْتَني وَأَنا عبدُك) هذا التوحيد، أتوجه إليك وحدك بالعبادة، (وَأَنَا على عَهْدِكَ ووَعدِكَ مَا اسْتَطَعتُ) هناك عهد ووعد، العهد؛ ما عاهدت عليه في الماضي ، والوعد؛ ما تنتظره في المستقبل، العهد في الماضي، والوعد في المستقبل: (وَأَنَا على عَهْدِكَ) ارجع لأول عهد:

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
[ سورة آل عمران]

نحن عندنا عهد مع الله.

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
[ سورة الأحزاب]

عهود المؤمن مع الله عز وجل
نحن حملنا الأمانة، هذا عهد بيننا وبين الله، هذا العهد العام، لكن أيضاً يوجد عهود أخرى، نحن عاهدنا الله على الإسلام، دخلنا في الإسلام، عاهدنا الله على الصلاة، على الصيام، على الزكاة، عاهدنا الله على العمل الصالح، فقال تعالى:

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
[ سورة الأعراف]

والعياذ بالله: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) يعاهد وينقض عهده، لكن هنا يوجد استغفار ويوجد سيد الاستغفار قال: (وَأَنَا على عَهْدِكَ) أي أنا مستقر ثابت على العهد الذي عاهدتك عليه، (ووَعدِكَ) بالجنة، أي أنتظر وعدك وهو دخول الجنة، فالعهد بما عاهدت عليه في الماضي، والوعد لما ينتظرك في المستقبل، قال: (مَا اسْتَطَعتُ) هذه يجب أن نقرأها بشكل صحيح، فليس المعنى: سأعمل شيئاً بسيطاً، قدرتي فقط، لا، هذه (مَا اسْتَطَعتُ) لاستنفاد الجهد.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا (286)
[ سورة البقرة ]

لكن أنا سأبذل كل ما أستطيع، إذا قال لك شخص: لك مبلغ مالي ببلد ثان، لكن بشرط أن تحضر فيزا ثم تأتي لتتسلمه، وهذه البلد من الصعب أن تأخذ الفيزا، نزلت إلى السفارة وقلت لهم: أريد فيزا ؟ فقالوا لك: والله لا يوجد فيز، أنت ممنوع من السفر، رجعت إلى البيت: والله أنا ما استطعت أن أحصل على فيزا، عملت جهدي! إذا كان هناك مبلغ مالي تبحث عن أربع أو خمس واسطات، وتتكلم مع فلان، ومع فلان، وتقول له: ابعث لي دعوة من هناك، وتحاول خمسين مرة ومرة، يوجد شيك ينتظرك، يوجد وعد حتى تصل، هذا: (مَا اسْتَطَعتُ)، هنا (وَأَنَا على عَهْدِكَ ووَعدِكَ مَا اسْتَطَعتُ) يجب أن تبذل جهوداً لأن هناك جنة، جنة عرضها السماوات والأرض، (مَا اسْتَطَعتُ) أي إذا استطعت أن أنفق عشرة فإني أنفق عشرة وليس تسعة (مَا اسْتَطَعتُ)، إذا كنت تستطيع أن تصلي بالمسجد فلا تصلي بالبيت، وهكذا ابذل الجهود كلها: (مَا اسْتَطَعتُ).

الفرائض حديّة أما التفاوت فيكون في النوافل:
يوجد فروض ونوافل، الفروض:

{ عن المغيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا }

[أخرجه الطبراني]

ثم النوافل:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: من عادى لي وَلِيّا فقد آذَنتُه بحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مِنْ أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألَني أعْطَيتُه، وإن استَعَاذَ بي أعَذْتُه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه }

[أخرجه البخاري]

النوافل فيها تفاوت
النوافل نتفاوت فيها، شخص يصلي قيام الليل، والآخر يصلي الضحى، والثالث يصلي قيام الليل مرة واحدة بالأسبوع، والرابع كل يوم، نسأل الله أن يعلي مراتبنا، فكل إنسان يبذل جهوده ما استطاع، أما الفرائض فحدية، خمس صلوات، وشهر رمضان، والزكاة، والحج، هذه حدية، أي لا يوجد مجال أن يقول الإنسان: أنا ملتزم قليلاً، أصلي فرضين، لا، الالتزام يجب أن يكون كاملاً.
إذا أتيت بخزان ماء، قال لك أحدهم: الخزان محكم ؟ تقول له: محكم سبعين بالمئة! ما معنى أنه محكم ؟ أي لا يسرب نقطة ماء، فإذا سرب نقطة واحدة فهو ليس محكماً، يجب أن تحكمه تماماً، قال لك: ممتلئ ؟ تقول له: ثلاثون بالمئة، الممتلئ نوافل، قدر ما تريد، أما المحكم فالفرائض، يجب أن تحكمه مئة بالمئة، لا تقل: والله أنا صمت عشرين يوماً من ثلاثين يوماً، لا يصح هذا، ثلاثون من ثلاثين، فالإحكام إذا كان هناك محرمات ألا نقترب منها، والفرائض الملزمون فيها شرعاً نأتي بها، ثم نمارس النوافل قدر ما نستطيع، هذه مسموح التفاوت فيها، وكلما صلى الواحد منا نوافل أكثر كان مقامه عند الله أعلى.

الالتجاء إلى الله والاعتصام به:
قال: (وَأَنَا على عَهْدِكَ ووَعدِكَ مَا اسْتَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ)، الشر يبدأ من صنع الإنسان، لأن الإنسان يخالف التعليمات فيأتي الشر، طبعاً الخير والشر من خلق الله:

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
[ سورة الفلق]

ربنا عز وجل يخلق الخير، ويخلق الشر، لكن أقول: غالب الشر يأتي من صنع الإنسان.
مخالفة التعليمات هي مصدر الشر
مثال: الملح مادة مهمة أم غير مهمة؟ والسكر هل هو مهم أم لا؟ الملح مهم مع الطبخ، والسكر مهم مع الحلويات، لكن إذا جاء شخص ووضع السكر مع الرز، والملح وضعه على الكنافة النابلسية، ماذا يحصل؟ شر، لماذا ؟ لأنه نزع الوصفة، كلاهما مهم لكن كل واحد بمكانه، فالسكر يستعمل مع الحلو، والملح بالطبخ.
(مِن شَرِّ ما صَنَعتُ) الإنسان عندما يخرج عن منهج الله يصبح شراً، راقبوا - بالله عليكم - المجتمعات، الأخطاء، والله أنا بحكم عملي تأتيني بعض مشاكل الناس، والفتاوى وكذا، والله لا تأتي مشكلة إلا سببها مخالفة شرعية من الإنسان، لا أقصد مشكلات العمل والتجارة التي تحدث بشكل طبيعي بسبب كساد الأسواق، بل أتكلم عن المشكلات في البيوت، أو خلاف بين شركاء، أو مخالفة شرعية من أحد الاثنين " ما توادّ اثنان في الله وفرق بينهما إلا بذنب أصابه أحدهما ".
دائماً يوجد مخالفة شرعية، بعلم الجريمة يقول لك: فتش عن المرأة، بعلم الشريعة أي جريمة ؟ فتش عن المعصية، يوجد معصية لله، الله خلق الكون ووضع لك منهجاً تمشي عليه لتكون أمورك بخير، تزيح عنه فتصاب بالمشكلات.
فقال: (أَعُوذُ بِكَ) أعوذ؛ أي ألتجئ، كانت العرب تقول: أطيب اللحم عوَّذه، ما معنى عوذه ؟ أي أقربه التصاقاً بالعظم، إذا أردت أن تأكل لحماً طيباً اتجه للداخل - هذه نصيحة على الهامش - كلكم تعرفونها لكن فقط للاحتياط، اتجه للداخل، عندما تصل للعظم، سبحان الله يكون اللحم طيباً وناضجاً وآخذاً من العظم، يقولون: أطيب الله عوذه، أو أطيب اللحم ما التصق بعظم.
فكلمة أعوذ جاءت من هنا، ألتجئ، أحتمي، كأنك تلتصق من شدة الالتجاء (أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ) أي يا ربي احمني من شروري، من آثامي، من المعاصي التي عملتها، لأنه لا يوجد إنسان إلا ويرتكب خطأ، أنت ربي، وخلقتني، لكن الوقوع بالخطأ من طبيعة الإنسان، فماذا تفعل ؟ تعتصم بالله فوراً.

أنواع الحمد:
الاعتراف بالنعمة أول مراتب الشكر
(أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ) أي أعترف لك، البواء؛ هو اللزوم، أي أعترف لك يا رب (أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنعْمَتكَ عَليَّ) أي تقر بنعمة الله عليك، الاعتراف بالنعمة أول مراتب الشكر، وثاني المراتب النطق باللسان: يا ربي لك الحمد، وثالث المراتب شكر العمل.

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
[ سورة سبأ]

أي أنت بنعم الله عز وجل إذا اعترفت بالنعمة، وهذا حمد، وإذا قلت: يا رب لك الحمد، هذا حمد، وإذا ربنا عز وجل أنعم عليك بالمال فأنفقت منه هذا أعلى أنواع الحمد (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً).

الله تعالى يعفو ويصفح ويستر ويغفر:
(أَبُوءُ لَكَ بِنعْمَتكَ عَليَّ) أي أقر وأعترف بإنعامك وأفضالك عليّ (وَأَبُوءُ لك بِذَنْبي) أعترف بذنبي (فاغْفِر لِي) اغفر لي هذا الذنب (فَإنه لا يغفرُ الذنوبَ إِلا أنتَ) وكما قلنا: المغفرة في الأصل تنبئ بالستر، والعفو ينبئ بالمحو والإزالة، والله تعالى يعفو ويصفح ويستر ويغفر، ما الصفح ؟ المغفرة ؛ ستر، جمع غفير غطى الأرض، العفو مسحنا، الصفح؛ أعطاه صفحة وجهه، أعرض عن الذي رآه.
إذا مررت بالطريق، وكان هناك أخ تعرفه جيداً صالحاً، يفعل فعلاً خاطئاً، إذا كنت شخصاً إيمانه عال، وأخلاقه عالية، فوراً تدير وجهك وتمشي وتصفح، هذا الصفح.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
[ سورة الحجر]

أي إذا رأيت خطأ استره، وكأنك لم تره، من قمة الإيمان أن يظن الذي أمامك أنك ما انتبهت.
يروى أن حاتم الأصم كان قاضياً، هو لم يكن أصم، كان يسمع، لكنه كان بمجلس القضاء، وجاءت امرأتان إلى المحكمة، إحداهما بدينة، فأرادت أن تصعد إلى خشبة القاضي، فأصدرت صوتاً وريحاً وهي تصعد، فخجلت من نفسها كثيراً وهي في مجلس حاكم، فالتفتت إلى أختها وقد احمر وجهها، وقالت لها: ماذا نفعل ؟! فلما وصلت إليه ووقفت بين يديه قال: ما اسمك ؟ قالت: فلانة، قال: ارفعِي صوتك أنا لا أسمعك، فرفعت، فقال: ارفعِي أكثر أنا لا أستطيع السمع، فرفعت، فسمي حاتماً الأصم، قال: فعل ذلك لئلا يحرجها، فالتفتت إلى أختها وقالت: الحمد لله لم يسمعنا.
هذا الصفح كأنه ما سمعها، أوهمها بأنه لم يسمعها حتى لا يحرجها، هناك بعض الناس بالعكس، إذا رأى خطأ اقترب، ماذا يحصل ؟ خير إن شاء الله ! اتركه، وقع في مشكلة أوهمه أنك لم تره، لا تفضحه، لا يجوز، الأصل: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).
بالقرآن الكريم:

﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
[ سورة المزمل]

وهناك: (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، والآية الثالثة:

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5)
[ سورة المعارج]

الصبر الجميل هو صبر بلا شكوى
الله وصف ثلاث آيات بالقرآن بالجميل، الصبر الجميل؛ هو صبر بلا شكوى، هناك إنسان يصبر صبراً غير جميل، يصبر لكن كلما رأى أحداً يقول له: عرفت ماذا حصل معنا ؟ عرفت ؟ وقعنا بمشكلة، وكذا، هذا صبر لكنه غير جميل، الصبر الجميل بلا شكوى، طبعاً إلا للأحباب، الإنسان يفضفض فقط لكنه لا يشكو، الصابر لا يشكو، مريض وصابر، يأتي إنسان كيف حالك ؟ الحمد لله، فقط، يا ربي لك الحمد، هذا الصبر الجميل، والصفح الجميل، قال: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) هذا الصفح بلا عتاب، صفح عنه، لكن كلما رآه تتذكر المرة الماضية عندما صار كذا وكذا ؟ أنا تجاهلت الأمر لكني لم أنسَ، هذا صفح ليس جميلاً، هذا صفح قبيح، لم يعد صفحاً، أما الهجر الجميل فقد قال: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)، هجر بلا أذى، أنا هجرته لكن أضبط أموري مع شخص يريد أن يعمل له مشكلة يعوض لي كل شيء عمله معي، ما هذا الهجر ! أنت لم تعد تراه لكنك تدبر له مصيبة، قال: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً).
صفح بلا عتاب، وهجر بلا أذى، وصبر بلا شكوى.
أسأل الله تعالى أن يديم علينا هذا الجمع الطيب المبارك، وأن يرفع الوباء، وأن يجعلنا دائماً في نعيم، وفي لقاءات طيبة، واشتقنا لكم جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته