الصدق مع الله - ثلاث قصص من غزوة خيبر

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-02-01
  • عمان
  • الأردن

الصدق مع الله - ثلاث قصص من غزوة خيبر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
وبعد؛ أحبابنا الكرام: عنوان لقائنا اليوم ثلاث قصصٍ مِنْ غزوة خيبر يجمعها رابطٌ سأتركه لآخر اللقاء، اخترت هذه القصص الثلاث لأن بينها رابطاً يجمعها.

القصة الأولى:

{ جاء رجُلٌ مِن الأعرابِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فآمَن به واتَّبَعه، فقال: أُهاجِرُ معك، فأوصى به بعضَ أصحابِه، فلمَّا كانت غزوةُ خَيْبَرَ، غَنِم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شيئًا فقسَمه، وقسَم للأعرابيِّ، فأعطى أصحابَهُ ما قسَمه له، وكان يرعى ظَهْرَهم، فلمَّا جاء دفَعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قِسْمٌ قسَمه لك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخَذه فجاء به إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: ما هذا يا رسولَ اللهِ؟ قال: "قِسْمٌ قسَمْتُهُ لك"، قال: ما على هذا اتَّبَعْتُك، ولكنِ اتَّبَعْتُك على أن أُرمَى هاهنا - وأشار إلى حَلْقِهِ - بسَهْمٍ، فأموتَ، فأدخُلَ الجنَّةَ، فقال: "إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْكَ"، ثم نهَض إلى قتالِ العدوِّ، فأُتِي به إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مقتولٌ، فقال: "أهو هو؟" قالوا: نَعم، قال: "صدَق اللهَ فصدَقه"، فكفَّنه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جُبَّتِهِ، ثم قدَّمه فصلَّى عليه، وكان مِن دعائِهِ له: "اللهمَّ هذا عبدُك خرَجَ مهاجِرًا في سبيلِك، قُتِل شهيدًا، وأنا عليه شهيدٌ" }

(أخرجه النسائي بسند صحيح)

(فَقَسَمَه) قسم الغنائم بين أصحابه، (وَقَسَمَ لَهُ) جعل له قسماً، هو غير موجودٍ لكن جعل له قسماً مع أصحابه، (فَلَمَّا جَاءَ الرجل دَفَعُوهُ إِلَيْهِ) أعطوه حِصَّته، (‏‏مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ) أنا ما اتَّبَعْتُكَ من أجل أن تأتيني الغنائم، (وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا-وأشار إلى حَلْقِهِ-بسَهْمٍ، فأموتَ، فأدخُلَ الجنَّةَ) اتَّبَعْتُكَ على العمل وليس على الغنيمة.

قانون الصدق مع الله:
هذه القصة الأولى، الذي أريده منها شيئان، الشيء الأول: ‏(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ).
بمفهومٍ حياتيٍّ إذا قال لك إنسانٌ: لا أستطيع الاستيقاظ لصلاة الفجر، قُل له: ‏(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)، وإذا قال لك إنسانٌ: لا أستطيع أن أستقيم في هذا الزمن الصعب وكلُّ شيءٍّ يدعو إلى الفتنة، قُل له: ‏(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) هذا قانونٌ يشبه قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
(سورة محمد)

تُقديم المُقدِّمات وأخذ النتائج
تُقدِّمُ المُقدِّمات فتأخذ النتائج، ومِنَ الجهل بمكانٍ أن يظنَّ إنسانٌ أنه يستطيع أن يأخذ النتائج دون مُقدِّمات، إن تدرس تنجح، إن تتاجر وتبذل جهوداً تربح، القضية قضية مُقدِّماتٍ ونتائج، في الحياة قد تأتي المُقدِّمات ولا تأتي النتائج لحكمةٍ يعلمُها الله لكنها حالاتٌ نادرة، يمكن أن يجتهد الإنسان كثيراً في التجارة ولا يُوفَّق في تجارته، لكن مع الله عزَّ وجلَّ القوانين لا يمكن أن تتخلَّف، المُقدِّمات تؤدي إلى نتائج، الطاعة تؤدي إلى السكينة في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة إن شاء الله، والمعصية تؤدي إلى انقباضٍ في الدنيا وإن لم يتُبْ الإنسان وعصى ونسيَ المُبتدى والمُنتهى والعياذ بالله ولم يعبَأ بآخرةٍ وبنى مجده على أنقاض الناس تؤدي به إلى النار.
المُقدِّمات والنتائج في الإسلام ليست عبارةً عن شيءٍ وضعي؛ هذا قانونٌ إلهي، بعبارةٍ أخرى العلاقة بين المقدمة والنتيجة علاقةٌ علمية، في حياتنا يوجد علاقةٌ وضعيةٌ وعلاقةٌ علمية، العلاقة الوضعية؛ يمكن أن أقول لك: لا تخرج مِنْ هنا، بل اخرج مِنْ هنا، لماذا؟ المكان يُخرَج به مِنْ هنا ومِنْ هنا، أما العلميَّة؛ إذا كان هناك مدفأةٌ تشتعل؛ إذا وضع إنسانٌ يديه عليها هل مِنَ الممكن ألا تحترق؟ ستحترق، العلاقة علميَّة، في الإسلام وفي القرآن العلاقات بين المُقدِّمات والنتائج علاقاتٌ علميةٌ وليست عشوائية:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
(سورة طه)

بالمقابل:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(سورة النحل)

وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)
(سورة الطلاق)

قانون الخالق قانونٌ مطلق
هذه علاقاتٌ لن تتخلَّف لأنها من قِبَل الخالق، والخالق إذا وضع قانوناً فقانونه مطلق، أما البشر فإنهم يضعون قوانين نسبيةً قد تنفذ بنسبة 90% في أحسن أحوالها لكن لا بد مِنْ بعض المخالفات، أما عند ربِّنا عزَّ وجلَّ فهذا قانون، هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع قانوناً قال: ‏(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) اطلب بصدقٍ الله عزَّ وجلَّ يُعطيك ما طلبته بصدق، اطلب الجنة بصدقٍ تنلها إن شاء الله، اطلب الطاعة بصدقٍ يُعينك الله عليها، اطلب الرزق الحلال بصدقٍ يُيسِّره الله لك، اطلب الزواج بصدقٍ اطلب الحلال، لا أريد إلا الحلال يارب، أغض بصري عن الحرام، أصبِرُ قليلاً، يُنيلُه الله تعالى الزواج الحلال، ‏(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) هذه العلاقة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الرجل ما جاء يريد غنيمةً من الواضح أنه كان صادقاً، حمل الغنيمة بعد أن وصلت إليه ووضعها بين يدي النبي، يا رسول الله ما جئت لهذا، أنا أسلمت أريد الجنة، أريد الشهادة، هذا الذي أسلمت من أجله، فطلبها بصدق، النبي صلى الله عليه وسلم قال: ‏(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) وضع له القانون، فلما جِيء به يُحمل وقد استشهد في سبيل الله ونال أقصى غاية مناه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه(‏صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ) باختصار.

النبي صلى الله عليه وسلم شهيدٌ علينا
الأمر الثاني: لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قُتِلَ شَهِيدًا وَأَنا عَلَيْهِ شَهِيدٌ) هل نستشعر هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم شهيدٌ علينا؟

{ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلْيكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ:" إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى جِئْتُ إِلى هذهِ الآيَة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاءِ شَهِيدَاً} -[النساء: 41]- قالَ:"حَسْبُكَ الآنَ "فالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان }

(متفقٌ عليه)

(يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلْيكَ أُنْزِلَ؟) أخجل أن أقرأ بين يديك وهو وحيٌ لك (إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) وهذه لفتةٌ إلى أن الإنسان أحياناً يقرأ القرآن ويُسَر، أحياناً يُحب أن يسمع القرآن بصوت غيره، وهذه متعةٌ أخرى غير متعة القراءة.
شهادة النبي الكريم على أمته يوم القيامة
النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع أنه سيأتي شهيداً على أمّته بكى، فنحن يجب أن نستشعر هذا المعنى، يوم القيامة سيشهد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن أمّته، ونحن أمّة التبليغ ونسأل الله أن نكون مِنْ أمّة الاستجابة أيضاً، أمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أمّتان: أمّة التبليغ، وأمّة الاستجابة، كلُّ مِنْ بلغته رسالة الإسلام فهو مِنْ أمّة التبليغ، بُلِّغ، لكن أمّة الاستجابة أعظم:

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
(سورة آل عمران)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(سورة الأنفال)

فنحن إن شاء الله مِنْ أمّة الاستجابة، وسيشهد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فقال: (وَأَنا عَلَيْهِ شَهِيدٌ)، هذه القصة الأولى.

القصة الثانية:

{ جَاءَ عَبْدٌ أَسْوَدُ حَبَشِيّ مِنْ أَهْلِ خيبر كان فِي غَنَمٍ لِسَيّدِهِ فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ قَدْ أَخَذُوا السّلَاحَ سَأَلَهُمْ مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَأقْبَلَ بِغَنَمِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ: مَاذَا تَقُولُ؟ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ؟ قَالَ: أَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَأَنْ لَا تَعْبُدَ إلّا اللّهَ، قَالَ الْعَبْدُ: فَمَا لِي إنْ شَهِدْتُ وَآمَنْتُ بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ؟ قَالَ: لَكَ الْجَنّةُ إنْ مِتّ عَلَى ذَلِكَ، فَأَسْلَمَ، ثُمّ قَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ هَذِهِ الْغَنَمَ عِنْدِي أَمَانَةٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: أَخْرِجْهَا مِنْ عِنْدِكَ وَارْمِهَا بِالْحَصْبَاءِ فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ، فَفَعَلَ فَرَجَعَتْ الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا فَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ غُلَامَهُ قَدْ أَسْلَم، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ فَوَعَظَهُمْ وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَلَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ قُتِلَ فِيمَنْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَاحْتَمَلَهُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَأُدْخِلَ فِي الْفُسْطَاطِ، ثم أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اطّلَعَ فِي الْفُسْطَاطِ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ هَذَا الْعَبْدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْرٍ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَلَمْ يُصَلّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ }

(أخرجه الحاكم)

(نُقَاتِلُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، (فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) إذا كان إنسانٌ يريد الحق، يصدُق في الحق، الله عزَّ وجلَّ يبلّغه إياه من حيث لا يحتسب، هم يقولون: (يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) أما هو (وَقَعَ فِي قلبه ذِكْرُ النَّبِيِّ) أثرت الكلمة فيه، (فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) إذا أراد ربنا عزَّ وجلَّ أن يُوصِلك إلى شيءٍ يُوصِلك بطريقٍ لا تخطر لك على بال، هؤلاء أعداءٌ له، هؤلاء قَالُوا: (يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ) يستهزؤون، ربنا عزَّ وجلَّ من خلال استهزائهم أوصل الرسالة إلى هذا الرجل، (فَأقْبَلَ بِغَنَمِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) أخذ الغنَمَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ: مَاذَا تَقُولُ؟ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ؟) هكذا باختصار، ما عندك؟، (أَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَأَنْ لَا تَعْبُدَ إلّا اللّهَ) التوحيد، (فَقَالَ الْعَبْدُ) هو عبدٌ عند سيده، (فَمَا لِي إنْ شَهِدْتُ وَآمَنْتُ بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ؟) أريد النتيجة، (يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ هَذِهِ الْغَنَمَ عِنْدِي أَمَانَةٌ) انظر إلى أمانة الرجل، لم يقل: أنا أسلمت وأنا فرَرْتُ بديني فلنذبح الغنم ولنأكلها وانتهت القصة، (أَخْرِجْهَا مِنْ عِنْدِكَ وَارْمِهَا بِالْحَصْبَاءِ) في الصحراء، في منطقةٍ قريبةٍ من خيبر، (فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ) هذه معجزةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعها وهي تذهب وحدها، لأنه إذا رجع لن يسمح له سيِّدُه بالعودة، (فَفَعَلَ فَرَجَعَتْ الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا فَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ غُلَامَهُ قَدْ أَسْلَم) رجعت الغنم ولم يرجع الغُلام، (فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ فَوَعَظَهُمْ وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ) كان النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً لخيبر، (فَلَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ قُتِلَ فِيمَنْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ) هذا الذي أسلم قبل ساعات، (فَأُدْخِلَ فِي الْفُسْطَاطِ) في الخيمة، (لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ هَذَا الْعَبْدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْرٍ) أراد الله به خيراً لأن عنده رغبةً في الخير، (وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَلَمْ يُصَلِّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ) ما أدركته صلاةٌ حتى.. أسلم، وخرج، واستشهد، ودخل الجنة، هذا نسميه بالعرف الحديث: حرقُ مراحل، هو حرق المراحل كلَّها ووصل إلى الشهادة مباشرةً، ولكن بصدق، الصدق العالي.

صدق النية مع الله:
بدأنا نستشعر ما العنوان الذي نتكلم عنه، العنوان هو الصدق مع الله، وليس الصدق بمعناه الحرفي أن يأتي الكلام مطابقاً للواقع أو أن يأتي الفِعل مطابقاً للكلام، هذا الصدق المعروف، لكن نقصد الصدق مع الله، صدق النوايا، بمعنى أن تكون النية بصدق، أريد أن أفعل ذلك، أنوي أن أفعل الخير، انوِ الخير، قالوا:
انْوِ الْخَيْرَ فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا نَوَيْتَ الْخَيْرَ
{ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بن حَنْبَل }
أعجَزُ النَّاسِ من يعجزُ أن ينوي نيةً صادقة، الإنسان بالنية الصادقة يأخذ الأجر وإن لم يقع منه الفعل، وهذا مِنْ كرم الله، ألم يأتِ في الحديث الصحيح:

{ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "‏ مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏" }

(أخرجه النسائي)

قد ينوي الإنسان فعل خيرٍ محددٍ ثم لا يستطيعه، قد لا يملك إنسانٌ فقيرٌ مالاً لكن نيته فيما لو رزقه الله أن يُنفق وبصدقٍ فيأخذ أجر النية، وقد قيل:

{ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَنِيَّةُ الكافر شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ }

(ورد في الأثر)

نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ
نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ لأنه دائماً ينوي الأكثر لكن يستطيع الإمكانيات، نحن عندنا إمكانيةٌ وعندنا نية، ربما يكون نيَّته هداية الخلق فيهدي الله به رجلاً واحداً، ربما يكون نيَّته خدمة ألف فقيرٍ لكن إمكانيته أن يخدم مئة عائلةٍ فقيرةٍ فقط، نيَّته أعلى من عمله لكن ما يستطيعه يقدّمه، فنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، بينما نِيَّةُ الكافر والعياذ بالله شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ: هو يقضي مثلاً سنواتٍ في الحكم ويُدمِّر ويقتل ويُشرِّد كما يفعل بعض الطغاة نسأل الله السلامة لكن هو يكون في نيَّته أن يفعل أكثر لكنه لا يستطيع إلى أن يفعل ذلك، يُحاسَبُ على نيَّته الشريرة والعياذ بالله، نيَّته شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، أما المؤمن فنيَّته خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ.
فأحبابنا الكرام؛ هذا الرجل العبد يرعى غنم سيده، ذُكِر إلى قيام الساعة ونحن اليوم بعد ألف وأربعمئة سنةٍ نذكر هذا العبد ونقول: رحمة الله عليه وغفرانه فقط لأنه صدق مع الله، في لحظة صدق؛ أريد أن أسمع من هذا الرجل، ذهب، سمع، أسلم، واستُشهِد، بين إسلامه واستشهاده ساعاتٌ لكنه بلَغَ الجنة، فالقضية هي قضية صدقٍ أكثر مِنْ قضية أعمال، أنا لا أقلِّل من شأن الأعمال، نحن جميعاً إذا حان وقت الظهر ولم نُصلِّ هذا شيءٌ سيءٌ طبعاً وغير شرعي.
سيدنا عمر كان يقول: ما سبَقَكم أبو بكرٍ بكَثرةِ صَومٍ ولا صلاةٍ، ولكنْ بشَيءٍ وقَرَ في قَلبِه.
صدق النية مع الله، نيَّته عالية، صدقه عالٍ، لكن ليس الموضوع كثرة صلاةٍ وصيامٍ ولا نُقلل من شأن الصلاة والصيام لكن الموضوع موضوع نيَّةٍ طيبةٍ صادقةٍ مع الله، يريد رضا الرحمن فالله تعالى يعطيه على نيته.
هذا العبد إذاً ساقه الله إلى الخير وغفر له وأدخله الجنة باستشهاده في سبيل الله.

القصة الثالثة:

{ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ }

(رواه البخاري)

نحن البشر لا يجوز أن نحكم على أحد
(رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً) لا يدَعُ أحداً من المشركين سواءً كان وحيداً أو مع جماعة، لا يدع مجموعةً ولا فرداً مِنْ شدة بأسه في القتال، (مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ) لم يَنَل أحدٌ من العدو كما نال فلان، كان أشجع رجل، (فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ) يريد أن يفهم ما الذي يحدث لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي، نحن معاذ الله أن نقول: فلانٌ من أهل النار، نحن البشر لا يجوز أن نحكم على أحد، نقول: من قال كذا فقد كفر، من قال كذا، لكن لا نقول: فلانٌ والعياذ بالله كافرٌ من أهل النار، نحن لا نكفِّرُ أحداً بالتعيين ولا نحكم على أحدٍ بأنه من أهل النار هذا ليس مِنْ شأن البشر هذا شأنُ الخالق جلَّ جلاله، معاذ الله، لكن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوحيٍ من الله يريد أن يُعلِّم أصحابه شيئاً يبقى إلى قيام الساعة، يحكم بحكم الله، بما أوحى إليه الله، (فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ) رأس السيف، (ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ) انتحر، (فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ) من الذي أنبأه بأمر الرجل إلا الله، قَالَ: (قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ) شيءٌ عَظُمَ عليهم جداً أن يكون رجلٌ يظهَرُ بهذه الشجاعة وهو على غير ذلك، (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ) على الشبكية الناس يرونه مِنْ أهل الجنة وهو مِنْ أهل النار.

الصدق مع الله يقتضي أن تكون أعمالنا خالصةً لوجه الله تعالى:
هذه القصة بعكس القصتين السابقتين، القصص الثلاثة في غزوة خيبر، هذا الرجل ظهر للناس أنه مقاتلٌ وشجاعٌ لكن كان يُقاتل ليقول الناس: فلانٌ شجاعٌ، رياءً، سمعةً، لكن هو لما جُرِح انتحر فقتل نفسه، لم يصدُق مع الله، أفعاله ما كانت نابعةً عن صدق نية، كانت نابعةً عن اعتزازٍ بالعروبة، وأيام الجاهلية: فلانٌ شجاعٌ من أشجع الناس ويقولون عنه: كذا وكذا وكذا، وقد جاء في الصحيح: أن الله عزَّ وجلَّ يأتي يوم القيامة بالقارئ والمُنفق والمُجاهد:

{ أنَّ اللَّهَ تبارَك وتعالى إذا كانَ يومُ القيامةِ ينزلُ إلى العبادِ ليقضيَ بينَهم وَكلُّ أمَّةٍ جاثيةٌ فأوَّلُ من يدعو بِه رجلٌ جمعَ القرآنَ ورجلٌ يقتَتِلُ في سبيلِ اللهِ ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ اللَّهُ للقارئِ: ألم أعلِّمْكَ ما أنزلتُ علَى رسولي؟ قالَ: بلى يا ربِّ، قالَ: فماذا عملتَ فيما عُلِّمتَ؟ قالَ: كنتُ أقومُ بِه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، فيقولُ اللَّهُ لَه: كذَبتَ، وتقولُ الملائِكةُ: كذَبتَ: ويقولُ له اللَّهُ: بل أردتَ أن يقالَ فلانٌ قارئٌ فقد قيلَ ذلكَ، ويؤتى بصاحبِ المالِ، فيقولُ اللَّهُ: ألم أوسِّعْ عليكَ حتَّى لم أدعْكَ تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قالَ: بلى يا ربِّ، قالَ: فماذا عمِلتَ فيما آتيتُك، قالَ: كنتُ أصلُ الرَّحمَ وأتصدَّقُ، فيقولُ اللَّهُ لَه: كذَبتَ، وتقولُ الملائِكةُ لَه: كذَبتَ، ويقولُ اللَّهُ: بل أردتَ أن يقالَ فلانٌ جَوادٌ وقد قيلَ ذلكَ، ويُؤتى بالَّذي قُتلَ في سبيلِ اللهِ فيقولُ اللَّهُ لَه في ماذا قُتلتَ فيقولُ أُمِرتُ بالجِهادِ في سبيلِك فقاتلتُ حتَّى قُتلتُ فيقولُ اللَّهُ لَه كذبتَ وتقولُ لَه الملائِكةُ كذبتَ ويقولُ اللَّهُ بل أردتَ أن يقالَ فلانٌ جريءٌ فقد قيلَ ذلكَ، ثمَّ ضربَ رسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علَى رُكبتي فقالَ يا أبا هريرةَ أولئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلقِ اللهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ }

(صحيح الترمذي)

فيأخذ أجره في الدنيا، أنت طلبت الدنيا فأخذتها، لكن الصِّدق مع الله عزَّ وجلَّ يكون بأن يطلب الإنسان رضا الله عزَّ وجلَّ وحده، لا يُصلِّي رياءً ولا سمعةً، لا يجاهد رياءً ولا سمعةً، لا يُعطي رياءً ولا سمعةً، وإنما يتصدَّق بالصدقة فيُخفيها فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، عندما نختبر إيماننا وصِدقنا مع الله بهذه الطريقة بأن تكون أعمالنا خالصةً لوجه الله الكريم فنكون في صدقٍ مع الله.
القصة صادمة لكنها مهمةٌ جداً لأنه يجب أن نعرف الخير وأن نعرف الشر.

{ يَقُولُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي }

(صحيح البخاري)

وقد قال الشاعر:
عَرَفتُ الشَرَّ لا لِلشَر لَكِن لِتَوَقّـيهِ وَمَن لَم يَعرِفِ الشَرَّ مِنَ الناسِ يَقَع فيهِ
{ أبو فراس الحمداني }
فأحياناً معرفة الشر مهمةٌ مِنْ أجل ألا نقع فيه.

علامتان لتحرير النيَّة:
لتحرير النية علاماتٌ كثيرة
القصة صادمةٌ وهي حالةٌ خاصةٌ جداً لكن يجب أن ينتبه الإنسان حتى نُحرر النوايا، كلنا إن شاء الله نوايانا طيبة وكلنا ننوي بأعمالنا وجه الله تعالى، لكن أحياناً الإنسان تشوب نيَّته بعض الشائبة فينبغي دائماً أن يُحرر النية، أن يختبر نفسه، ولتحرير النية علاماتٌ كثيرة لكن عندي علامتان واضحتان:
العلامة الأولى: هي القيام ببعض الطاعات في السّر، إذا صام الإنسان نفلاً ولم يُخبر أحداً، أو أنفق نفقةً بينه وبين الله لا يعلم بها أحد، طبعاً هناك بعض النفقات من المؤكد أن الناس سيعلمون بها، مثلاً تكون صدقات تعاونية، جمعيات، إلخ.. لكن يجعل لنفسه صدقةً لا يدري بها أحد، فإذا كان يجد نفسه مرتاحاً إذاً العمل لله، هذا اختبار.
العلامة الثانية: أحياناً الإنسان إذا مدحه الناس يزيد في البرِّ والطاعة والنفقة، فإذا ذمَّه الناس أعرض، فهنا يوجد إشكالٌ وكأن بعض عمله لا أقول كلَّ عمله وكأن بعض عمله يُراقب فيه الناس، أما المؤمن والمُخلص حقاً والذي نواياه لله مئةً بالمئة فلا يُنقص البِرَّ عند الذمِّ ولا يزيده عند المديح، هو يزيده عند قدرته وإمكانه إرضاءً لله، لكن لا يؤثِّر به كلام الناس ذمَّاً ولا مدحاً لأن العمل لوجه الله.
وأنا لاحظت بعض الحالات يرويها لي بعض الإخوة الكرام المحسنين أسأل الله أن يُجزيهم خير الجزاء: أنهم أحياناً يتأذَّون، ينفقون نفقةً فيتأذَّون إما مِنَ المُنفق عليه أو مِنْ أناسٍ حوله، فيختبر نفسه بأنه يُواظب على الصدقة.
وهذا له دليل: لما تكلَّم مِسْطَحُ بن أُثَاثَة في عِرض السيدة عائشة الطاهرة المُطهرة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما تكلَّم في عِرضها بعض المنافقين وكان مِنْ بينهم مِسْطَحُ بن أُثَاثَة، كان مِسْطَح ينفق عليه أبو بكر، يعطيه كلَّ شهرٍ مصروفه، فلما تكلَم في عِرض عائشة فقد تكلَّم في عِرض ابنته، هذا ليس إيذاءً بسيطاً، إيذاءٌ عظيم، فأوقف النفقة، وهو أبو بكر الصديق، ما استطاع أن يتحمَّل، وربما لو لم يكن أبا بكرٍ لما عُوتب في ذلك، لكن أبو بكرٍ تحديداً لا، فأنزل الله تعالى بعد آيات براءة عائشة رضي الله عنها قال:

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)
(سورة النور)

(وَلَا يَأْتَلِ) هو أقسم يميناً ألا يُعطيه بعد ذلك شيئاً، (وَلَا يَأْتَلِ): أي ولا يحلِف، ثم قال: (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) فقام أبو بكر وبكى فقال: بَلَى أُحِبّ أَنْ يَغْفِر اللَّه لِي، فأعاد النفقة إلى ما كانت، لأن النفقة لله، الإيذاء الذي صدر منه هو يُحاسَبُ عنه إن لم يتُبْ أما النفقة كانت لله ومازالت لله لم يتغير شيء، فهذا أيضاً من اختبار النوايا.

ملخص وخاتمة:
أحبابنا الكرام؛ مُلخص هذه القصص الثلاثة أننا ينبغي أن نُحرر النوايا وأن نصدُق مع الله في الطلب والله عزَّ وجلَّ حاشاه أن يَصْدُقَ إنسانٌ في طلبه ثم لا يعطيه، وأعظَمُ الصِّدق مع الله أن نَصْدُقَ في طلب الجنة فنبذل لها أسبابها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، عبادةً وطاعةً وإنفاقاً ومحبَّةً وخيراً، فإذا صدقنا الله في طلب الجنة ننالُها إن شاء الله برحمته وفضله وجوده وإحسانه.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ