ضرب الأمثال في السيرة النبوية - الجزء الأول

  • محاضرة بعنوان
  • 2025-10-20
  • الأردن - عمان

ضرب الأمثال في السيرة النبوية - الجزء الأول

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبَّلاً يا ربَّ العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.

ضرب المَثَل يوضِّح الحقيقة وينقلها من المعنى المُجرَّد إلى المعنى المحسوس فتتضح الصورة:
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: فإنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم في السُنَّة الصحيحة، ضرب مثلاً لنفسه مع قومه في أربعة أحاديث صحيحة، ليوضِّح للناس، فضرب المَثَل يوضِّح الحقيقة وينقلها، من المعنى المُجرَّد إلى المعنى المحسوس فتتضح الصورة، المَثَل مهمته أن ينقل المعلومة من المعنى المُجرَّد إلى الشيء المحسوس المُشاهَد الذي بين أيدينا.
مثلاً لو إنَّ طفلاً قال لك كيف أؤمن بالله وأنا لا أراه؟ هو طفلٌ صغير، بالنسبة له شيءٌ مُجَّرد لم يرهُ بعينه، فأنت تقول له: يا بُنَي هل في هذه القاعة كهرباء؟ يقول لك: نعم، تقول له: كيف عرفت ذلك؟ يقول لك: من الإضاءة، فتقول له: هل رأيت الكهرباء؟ يقول لك: لا، تقول له: كيف استدليت على وجودها؟ يقول لك: من الإنارة الموجودة والصوت العالي، تقول له: وكذلك نحن لا نرى ربّنا في الدنيا، ولكن نستدل على وجوده من خلال خَلقه، ولله المَثَل الأعلى، كيف أوصلت الفكرة إليه؟ من خلال الحقيقة المحسوسة التي يراها بعينه، هذا يُسمّى المَثَل، والله تعالى في القرآن الكريم ضرب الأمثال:

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32)
(سورة الكهف)

أمر بضرب المَثَل، وضرب الأمثال للناس:

لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)
(سورة الحشر)

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)
(سورة البقرة)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)
(سورة البقرة)

فالنبي صلى الله عليه وسلم، ضرب مثلاً لذاته صلى الله عليه وسلم مع قومه، في أربعة أحاديث صحيحة، نأخذ منها اليوم حديثَين اثنين.
الحديث الأول: يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أتَى قَوْمَهُ، فقالَ: يا قَوْمِ إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بعَيْنَيَّ، وإنِّي أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ، فالنَّجاءَ، فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا فانْطَلَقُوا علَى مُهْلَتِهِمْ، وكَذَّبَتْ طائِفَةٌ منهمْ فأصْبَحُوا مَكانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فأهْلَكَهُمْ واجْتاحَهُمْ، فَذلكَ مَثَلُ مَن أطاعَنِي واتَّبَعَ ما جِئْتُ به، ومَثَلُ مَن عَصانِي وكَذَّبَ ما جِئْتُ به مِنَ الحَقِّ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

(فالنَّجاءَ) أي انجوا بأنفسكم، الحديث في الصحيحَين البخاري ومسلم، هذا الحديث فيه مجموعةٌ من الدروس والعِبَر التي يمكن أن نستفيدها.
الدرس الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ينادي قومه يقول: (يا قَوْمِ) هذا النداء فيه تحبُّب وتودُّد (يا قَوْمِ) حذفت الياء للتخفيف، هو ينسبهم إلى نفسه، رغم أنهم قبل الدعوة ليسوا على دينه، لكنه يتودَّد إليهم، وهذا ما فعله الأنبياء مع إخوانهم:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28)
(سورة هود)


كل الأنبياء لمّا يخاطبوا أقوامهم خاطبوهم (يا قَوْمِ) لم يتخلوا عنهم:
كل الأنبياء لمّا يخاطبوا أقوامهم خاطبوهم (يا قَوْمِ) لم يتخلوا عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه مَلَك الجبال بعد الطائف وقال:

{ أنَّها قالَتْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ قالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

{ شهِدتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ حينَ كُسرت رباعيتُه، وجُرحَ وجهُه، وَهُشِّمتِ البَيضةُ علَى رأسَه، وإنِّي لأعرفُ مَن يغسلُ الدَّمَ عن وجهِه، ومَن ينقلُ علَيهِ الماءَ، وماذا جعلَ علَى جُرحِه حتَّى رقأَ الدَّمُ، كانت فاطمةُ بنتُ محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ تغسلُ الدَّمَ عن وجهِه، وعليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ ينقلُ الماءَ إليها في مَجنَّةٍ، فلمَّا غسلتِ الدَّمَ عن وجهِ أبيها أحرقَت حصيرًا، حتَّى إذا صارت رمادًا أخذت منَ ذلِك الرَّمادِ فوضعتهُ علَى وجهِه حتَّى رقأَ الدَّمُ، ثمَّ قال: يومئذٍ اشتدَّ غضبُ اللهِ علَى قومٍ كَلَمُوا وجهَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم، ثمَّ مَكثَ ساعةً، ثمَّ قال: اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمونَ }

(أخرجه مسلم والطبراني والترمذي)


عندما تريد أن تدعو إنساناً إلى الله ينبغي أن تختار من الأساليب ومن الكلمات أحسنها:
فأنت عندما تريد أن تدعو إنساناً إلى الله، ينبغي أن تختار من الأساليب ومن الكلمات أحسنها، لا أقول الحسن وإنما الأحسن، ربُّنا جلَّ جلاله يقول:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)
(سورة النحل)

هذه الباء تُسمّى في اللغة باء الاستعانة، أي مستعيناً بهذه الأدوات، ما هي الأدوات؟
الأولى الحكمة: والحكمة لم يصفها الله بأنها حسنة أو سيئة لأنها حكمة، والحكمة بحد ذاتها حسنة، ليس هناك حكمةٌ سيئة، الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فالحكمة تقتضي أن تتعامل مع الناس كلٌّ بحسب ثقافته، كلٌّ بحسب بيئته، كلٌّ بحسب ما نشأ عليه، الحكمة تقتضي أن تُقدِّم شيئاً وتؤخِّر شيئاً.

الحكمة أن تضع الشيء في موضعه:
مثلاً: شابٌ مُلتزم حديثاً غير الشاب المُلتزم وقد نشأ في بيئةٍ إسلامية، فالشاب المُلتزم طويلاً بدين الله عزَّ وجل، يمكن أن تُحدِّثه بالفرعيات وتأمره وتنهاه بالتفاصيل، بينما المسلم الجديد أو الشاب المُلتزم حديثاً، تأتي له بالعموميات والكُليّات، وتتغاضى عن بعض الجزئيّات، هذا كله يُسمّى الحكمة، وهو أن تضع الشي في موضعه، وأن تضع الخِطاب في مكانه، وأن تُخاطِب الناس على قدر عقولهم، وأن تؤجِّل أشياء أحياناً وتؤخِّرها لمصلحةٍ تراها، ولحكمةٍ تراها، والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا أراد بعض الصحابة أن يقتلوا عبد الله بن أُبَي بن سلول، وهو يستحق القتل، فهو زعيم المنافقين ويؤلِّب الناس على دولة الإسلام، فيستحق القتل، لكن ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟

{ غَزَوْنَا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقدْ ثَابَ معهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حتَّى كَثُرُوا، وكانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أنْصَارِيًّا، فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حتَّى تَدَاعَوْا، وقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلْأَنْصَارِ، وقالَ المُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ما بَالُ دَعْوَى أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟! ثُمَّ قالَ: ما شَأْنُهُمْ؟ فَأُخْبِرَ بكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيَّ، قالَ: فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: دَعُوهَا؛ فإنَّهَا خَبِيثَةٌ، وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ: أقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا؟ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فَقالَ عُمَرُ: ألَا نَقْتُلُ يا رَسولَ اللَّهِ هذا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّه كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فراعى بجانب الحكمة سُمعة الصف الإسلامي، فالناس لا يعرفونه منافقاً يعرفونه صحابياً، فلمّا يُشاع في العرب أنَّ محمداً يقتل أصحابه، يُعرِض الناس عن الدخول في دين الله تعالى، من سيُصدِّق أنه كان منافقاً؟ البعض القليل الذي رأى نفاقه، الباقي يقولون: لعلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله لأنه ينازعه المُلك، فحمى السُمعة، قال لعائشة رضي الله عنها:

{ لولا أنَّ قومَكِ حديثُ عهدٍ بكُفْرٍ لَهدَمْتُ الكعبةَ ثمَّ أعَدْتُها على أساسِ إبراهيمَ وأدخَلْتُ في البيتِ مِن الحِجْرِ أَذْرُعًا وجعَلْتُ لها بابَيْنِ وألصَقْتُهما بالأرضِ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

هو جزءٌ من الكعبة لكنه خارج الكعبة، لأكمل بناءها، لكن لا يريد أن يُشعِل في هذا الوقت فتنةً، لأنَّ القوم حديثو عهدٍ بكُفر، فيُشعِل فتنةً داخل الصف المسلم، يقول الإمام الغزالي: "خاطِبوا الناس على قدر عقولهم".

{ وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ، أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورَسولُهُ }

(صحيح البخاري)

هذه كلها تندرج تحت الحكمة.
الجانب الآخر: قال: (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) الموعظة وصفها بأنها حسنة، إذاً هناك موعظةٌ سيئة بالمفهوم المُخالف.

الوعظ هو أن تحُضَ إنساناً على خيرٍ وتنهاه عن شرّ:
الوعظ هو أن تحُضَ إنساناً على خيرٍ وتنهاه عن شرّ، هذا يحتاج إلى حُسنٍ في الخطاب، كلمةٌ جميلةٌ طيبة، أن تبقى دائماً تُحدِّثه عن نار جهنم، وكيف سيدخل إليها مُعظم الناس، وكيف ستشتعل بهم، وكيف سيخرُج منها الحَنَش الأقرع والثُعبان الأعمى، وربما بأحاديثٍ ضعيفة أو واهية، من أجل أن تُثير فيه الخوف دون أن تُنمّي جانب الرغبة، هذه موعظة سيئة، وأن يُمضي الداعية وقتاً طويلاً في الحديث عن رحمة الله، وأننا جميعاً مرحومون، واعصِ الله كما شئت، وسيشفع لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيضاً هذه موعظة سيئة، الموعظة الحسنة هي رغباً ورهباً خوفاً وطمعاً.

من الصحيح أن تُخاطِب المُجادِل بالتي هي أحسن:
شاهدُنا في الثالثة: قال: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لمّا يكون مُعانداً مُعرضاً تحتاج أن تُجادله، ما قال: وجادلهم بالحُسنى، كما هي الموعظة، لكن قال: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي هُنا ينبغي أن تختار بين الحسَن والأحسن، فتأخذ الأحسن، لأنَّ هذا المُجاِدل مُتمسِّكٌ بأفكاره، فإذا جئت إليه تنهره وتقول له: أنت ضالٌّ مُشركٌ كافرٌ، فإنه سيتمسَّك بفكره أكثر وأكثر، لأنه يعتقد أنَّ فكره مرتبطٌ بكرامته، فلمّا تَنقُض له فكرته تنال من كرامته، فيزداد تمسُّكاً بفكرته، فالصحيح أن تُخاطبه بالتي هي أحسن، فمن هذا الباب نجد مثلاً خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه:

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)
(سورة مريم)

لما ردَّ عليه آزَر:

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46)
(سورة مريم)

استنكفَ أن يقول له يا بُنَي، بينما إبراهيم لا يترك (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ) ما قال: يا أَبَتِ ألستَ خائفاً أن يمسَّك، قال: (إِنِّي أَخَافُ) أنا الذي خائف، أنا أخاف عليك، ثم قال: (أَن يَمَسَّكَ) المَسّ هو شيءٌ خفيفٌ جداً، ثم قال: (عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ) والكل يتخيَّل أن يقول له: عذابٌ من المُنتقِم الجبَّار، لكنه يريد أن يُقرِّبه قال: (عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ) فالأنبياء كلهم في تعاملهم مع المُخالفين، تعاملوا بالتي هي أحسن، (يا قَوْمِ) النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل بهذا المعنى.

اليقين هو يقينٌ حسّي ويقينٌ عقلي ويقينٌ إخباري:
(إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بعَيْنَيَّ) الآن كما قلنا سابقاً: اليقين هو يقينٌ حسّي ويقينٌ عقلي، ويقينٌ إخباري.
اليقين الحسّي أن ترى الشيء بعينيك، واليقين العقلي أن تستدل على وجوده بعقلك كما ضربنا مثال الكهرباء، واليقين الإخباري أن يُخبرك رجُلٌ صادقٌ بوقوعه، وأن لا تراه وليس هناك شيءٌ من آثاره يدل عليه، فهذه هي مراتب اليقين.
النبي صلى الله عليه وسلم هُنا يستخدم اليقين الحسّي يقول: (مَثَلِي ومَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أتَى قَوْمَهُ، فقالَ: يا قَوْمِ إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بعَيْنَيَّ) النبي صلى الله عليه وسلم:

لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ(18)
(سورة النجم)

فهو عندما يُبلِّغُنا، يُبلِّغُنا بشيءٍ رآه بعينيه، فالعذاب قادمٌ قادم، والجنَّةُ قادمةٌ قادمة، كان أحد السلف الصالح يقول: والله لقد رأيت الجنَّة والنار، فقالوا له: انظُر فيما تقول! والله ما أحدٌ رأى الجنَّة والنار، نحن نعتقد بالجنَّة والنار لكن ما رأيناها، قال: لقد رأيتهما عياناً، أراد أن يستفزَّهم أكثر، قالوا له: وكيف ذاك؟! قال رأيتهما بعينَي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهُما بعينَي رسول الله أصدق عندي من رؤيتي لهُما بعَينَي، لأنَّ بصري قد يزيغ وقد يطغى أمّا بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17)
(سورة النجم)


معنى النذير العُريان:
فاليقين في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بالحقّ وأنه يتكلم حقَّاً، هذا من مفردات عقيدة المؤمن، فقال: (يا قَوْمِ إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بعَيْنَيَّ، وإنِّي أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ) النذير العُريان مصطلحٌ عند العرب تقوله، تقصد به أنه جاء رجُلٌ ينذرهم بالجيش القادم أو بالخطر الدايم، حتى إنه لشدّة الخطر لم يلبس ثيابه، أو أنه أراد أن لا يلبسها، ليُعلِمهم أنه لو لم يكن الأمر جليلاً لما جئتكم على هذه الحالة، أو أنه نزعها ليُشير بها إليهم ليجتمعوا إليه، كلها معانٍ تجتمع معاً في أنَّ العرب تقول فلانٌ النذير العُريان، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وإنِّي أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ) أي يُعلِّمهم من بيئتهم التي هُم فيها، أنه أنا مُشفقٌ عليكم، جئت أُنذركم شيئاً مُهمَّاً جداً، مثل الذي يُنذِر بالجيش صبَّحهم ومسَّاهم، قال: (فالنَّجاءَ) جاءت بالنصب، أي الزموا النجاء، أُغريكم بالنجاء، انجوا بأنفسكم الجيش قادمٌ قادم، في الصباح يكون عندكم.
قال: (فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا) الدُلجة هي ظلمة أول الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ }

(صحيح الترمذي)


المسير ليلاً أسهل وقد حثَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم:
الله يبيعُنا جنَّةً عرضها السماوات والأرض، السِلعة التي لديه تحتاج بذلاً، من البذل لها أن تمشي إليها، وأن تمشي في أول الوقت لا في آخره، لأنك في آخره لن تلحَق الوصول، فيُقال أدلَج الرجُل أي مشى من أول الليل، حتى إذا كان الصباح بلغ المنزل الذي أراده، لأنَّ العرب كانوا يسيرون في سفرهم ليلاً أكثر، والنبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على السفر ليلاً وقال:

{ عليكم بالدُّلْجةِ فإنَّ الأرضَ تُطوى بالليلِ }

(أخرجه أبو داوود والبزار وابن خزيمة)

المسير ليلاً أسهل، خاصةً في الصحراء والحرارة العالية وحرّ الصحراء، فالسير ليلاً فيه بركة أكثر، فقال: (فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا فانْطَلَقُوا علَى مُهْلَتِهِمْ) أي بسكينةٍ، معهم الوقت، فساروا ضمن الوقت، العدو لن يصل إليهم، لأنهم ضمن الوقت الذي يستطيعون فيه المسير.

قصة السمكات الثلاث والحكمة منها:
هناك كاتبٌ هندي اسمه بيدبا، ألَّف كتاباً اسمه كليلة ودمنة، ثم ترجمه للعربية فيلسوفٌ مسلمٌ اسمه ابن المقفَّع، كليلة ودمنة اسم حيوانين من الحيوانات، وتجري قصص مع الحيوانات لكن هي تمسّ واقع البشر، هو يُعلِّمنا من خلال قصص بسيطة مع الحيوانات، فمن هذه القصص قصة عنوانها "السمكات الثلاث" ويروي فيها ابن المقفَّع بأنه كانت هناك ثلاث سمكاتٍ في بحيرةٍ صغيرة، فمرَّ صيادان فتواعدا أن يأتيا في اليوم الثاني ليصطادا ما في البحيرة من أسماكٍ، فسمعت السمكات الثلاث قول الصيادَين، فأمّا الأولى فقالت: العاقل من يحتاط للأمور قبل وقوعها، أي الأمر لا يحتاج تأجيل، تواعدا أن يأتيا، قال فما زالت تحاول حتى قفزت من البحيرة فنزلت في الغدير ونجَت بنفسها.
قال: وأمّا الأقل كياسةً وعقلاً وحذراً، بقيت في مكانها، فلمّا حضر الصيادان تماوتت، أي طفَت على وجه الماء وكأنها ميتة، فأخذاها وألقياها على التراب، فقفزت ونزلت في الغدير فنجَت، لكن الأمر كان خطراً جداً، إمّا أن تنجو أو لا تنجو، يعني وضعت نفسها في موضعٍ خطير، لكن قالت: العاقل لا يعدِم حيلةً، الأولى قالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، يمشي في أول الليل، الثانية قالت: العاقل لا يعدِم حيلةً، أنا أعرف كيف أُنقِذ نفسي، وفعلاً نجَت، لكن وضعت نفسها بدقائقٍ حرجةٍ جداً، وخوفٍ شديد.
قال: وأمّا الثالثة فما زالت بين إقبالٍ وإدبار، سمّاها ابن المقفَّع العاجزة، قال حتى جاء الصيادان فاصطاداها وأكَلاها، يعني المؤمن هو الكيّس الأول:

{ الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ }

(أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه)

قال: (فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا فانْطَلَقُوا علَى مُهْلَتِهِمْ) معه وقت لا داعي أن يضع نفسه في الوقت الحرِج، قال: (وكَذَّبَتْ طائِفَةٌ منهمْ فأصْبَحُوا مَكانَهُمْ) هُنا أصبحوا تامة وليست ناقصة، أصبح من أخوات كان تأتي تامة وتأتي ناقصة.
ناقصة مثلاً: أصبح الرجُل نشيطاً، تحتاج إلى اسم أصبح وخبر، أمّا أصبح الرجُل أي دخل في الصباح هذه تامة، فقال: (فأصْبَحُوا مَكانَهُمْ) أي دخل عليهم الصباح ومازالوا مكانهم، قال: (فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ) هجم عليهم في الصباح (فأهْلَكَهُمْ واجْتاحَهُمْ) جاء العذاب لأنهم لم يأخذوا للأمر عُدَّته، ولم يتأهبوا للنجاة، قال: (فَذلكَ مَثَلُ مَن أطاعَنِي واتَّبَعَ ما جِئْتُ به، ومَثَلُ مَن عَصانِي وكَذَّبَ ما جِئْتُ به مِنَ الحَقِّ).

الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنفين:
إذاً الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنفين:
الأول أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني كذَّب ما جاء به، الأول نجا ومشى في الطريق، وأدرك قبل مجيء الموت والعذاب، والثاني بقي في تكذيبٍ وإعراضٍ ونفورٍ وشكٍّ، حتى جاءه الموت ولم يُقدِّم شيئاً فاستحقَّ عذاب الله تعالى.
هذا المثال العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يدفع المسلمين، من أجل أن ينهَض بحالهم، من أجل أن يُبيِّن لهم أنَّ الوقت ليس في صالحنا، الوقت قصير، بين مساءٍ وصباحٍ يُغير علينا الأعداء، والأعداء هُنا ليسوا أعداءً تقليديين، ولكن الذنوب التي تتراكم، والخطايا، والمعاصي، ثم الموت الذي يأتي لا يدع للإنسان وقتاً ليتوب.

{ إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ }

(أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني)

وفي الحديث:

{ كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى }

(صحيح البخاري)


الرحمة واسعة والجنَّة لا تضيق بأهلها:
فالذي يعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعصي الله طبعاً، إنما يقول بلسان حاله لا بمقاله، أنا لا أُريد دخول الجنَّة، لأنَّ طريق الجنَّة فتحوا القاعة وقالوا: من معه التذكرة يدخل، أحد الناس عَلِمَ أنه يجب أن يقطع تذكرة وجاء بلا تذكرة، فقالوا: لن نُدخلك، فقال: هل تضيق القاعة عن أن أدخل إليها؟ قالوا: والله لا تضيق، المكان موجود، لكن أنت تعلم ونحن أعلَمنا أنَّ الدخول بالبطاقة وأنت لم تُحضِر البطاقة، فربنا عزَّ وجل قال:

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)
(سورة الأعراف)

لا تضيق رحمته عن أن يُدخِل الناس جميعاً الجنَّة، لكن بعدها قال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ) ووصفهم جلَّ جلاله، فالرحمة واسعة، والجنَّة لا تضيق بأهلها، لكن الله عزَّ وجل جعل لها طريقاً فمن أعرض عنها فهو الذي لا يريد دخول الجنَّة.
الحديث الثاني: في ما يُمثِّل به النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مع الناس، قال:

{ إنَّما مَثَلِي ومَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارًا، فَلَمَّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ جَعَلَ الفَراشُ وهذِه الدَّوابُّ الَّتي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فيها، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فيها، فأنا آخُذُ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وهُمْ يَقْتَحِمُونَ فيها. }

(صحيح البخاري)

(فَلَمَّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ) هذا اقتباسٌ من كتاب الله تعالى، الفَرَاش والدواب الصغيرة البرغش والذُباب وغيره، مصدر النور يأتي إليه وهو لا يدري أنه سيُحرقه، الدنيا خَضِرة نَضِرة، كيف النار فيها جانب النور وفيها جانب الإحراق، كذلك الدنيا فيها جانب النور، خَضِرة نَضِرة، نساء، وأموال، وقصور، وسيارات فارهة، وشهوات، فجانب النور فيها موجود، لا أحد يقول ليس فيها مُتَع، الدنيا فيها مُتَع، ربُّنا زيَّنها، ربُّنا قال:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14)
(سورة آل عمران)


الله عزَّ وجل زيَّن الدنيا لنا:
الله زيَّنها، وإن كان بعض العلماء قالوا: الشيطان زيَّنها لكن بالنتيجة ربُّنا أراد ذلك، سواءً سمح للشيطان أن يُزيّنها لنا أو زيَّنها، لكن بالنتيجة الفعل فعل الله، وسيدنا عُمر لمّا قرأ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) قال: "يا ربّ إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أُنفقه في حقِّهم"، أنا لا أستطيع، المال مُزَّين لي، أراه فأرفضه؟! قال: لكن أسألك أن أُنفقه في حقِّهم، انظُر إلى الفهم العُمري، أنا ليس المطلوب مني أن أكره الدنيا، المطلوب أن أستخدمها في طاعة الله، وفيما يُرضي الله، فالدنيا مُزيَّنة لنا بكل ما فيها (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).
قال: (فَلَمَّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ) هذا الجانب الإيجابي من النار، فالفَرَاش والدواب لضعف إدراكهم، ظنّوا أنهم الآن عندهم مصدر للنور فهجموا عليها، وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، يُحرقون أنفسهم وما يشعرون، يظنون أنهم جاؤوا إلى مركز النور وقد جاؤوا إلى النار المُحرِقة (فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ) هذا الرجُل الذي استوقد النار خائفٌ على الفَرَاش، هو أشعل النار ولا يريد أن يُحرِق فيها أحداً.
(فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فيها) انظروا إلى التعبير النبوي، يقتحمنّ أي اقتحام، مُصرٌّ على الوقوع في النار، قال: (فأنا آخُذُ بحُجَزِكُمْ) الحُجَز بمعنى أن يستنجد به، يعني المكان الذي ممكن أن تُمسكه منه فتتحكَّم به، قال: (فأنا آخُذُ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وهُمْ يَقْتَحِمُونَ فيها)

بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلوها بليغٌ ولا يصل إليها أحد:
انظُر إلى هذا التعبير النبوي! حقيقةً بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلوها بليغٌ ولا يصل إليها أحد، انظُر إلى المَثَل كيف يُصوِّر الواقع ويُصوِّر الحالة، وكيف يُحدِث في أنفسنا أثراً، أن نستجيب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)
(سورة الأنفال)

هو يدعونا للنجاة من النار المُحرِقة، ونحن نقتحمها اقتحاماً بالمعاصي، وبالذنوب، وبالآثام، وبعدم التوبة، وبالإصرار على المعاصي، وبالاستغراق في الدنيا، وبالاستجابة للشيطان الذي يأمُر بالفحشاء والمُنكَر، فأمرٌ عجيبٌ جداً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ على النار، ويدفعها عنّا، وينهانا عنها، ونحن نريد أن ندخلها، لا أقول نحن نسأل الله أن لا نكون منهم، لكن أقصِد من ذَكَرهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذان الحديثان يا كرام، مما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مع قومه ومع الناس من حوله، ويضرِب الله الأمثال للناس لعلَّهم يتفكرون ولعلَّهم يعقلون، فلعلَّ هذين الحديثين يكونان دافعاً لنا على مزيدٍ من الاستقامة على منهج الله، مزيدٍ من التمسُّك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزيدٍ من السؤال عن الحلال والحرام، عن يجوز ولا يجوز، وافعل ولا تفعل.

أُمة الإسلام لديها منظومة عظيمة من القيَم والأخلاق:
نحن أحبابنا الكرام أُمة الإسلام، والله لدينا منظومة من القيَم، ومنظومة من الحلال والحرام قد جاوزنا بها أُمم الأرض، اليوم أنت كمسلم يُعرَض عليك شيءٌ من دنيا، شيءٌ من مال، شيءٌ من منصِب، تقول: سأَسأل يجوز أو لا يجوز، أين يجوز أو لا يجوز؟! ما مقاييس الناس؟ مقاييس الناس اليوم يوجد فائدة أو لا يوجد فائدة؟ يوجد مصلحة أو لا يوجد مصلحة؟ لكن ليس يجوز أو لا يجوز؟ يعني قد يضحك منك وأنت تقول: لا مستحيل أن آخُذ قرشاً من حرام ، معاذ الله أن أُدخِل قرشاً من حرامٍ إلى بيتي، معاذ الله أن أجلس مع امرأةٍ لا تحلُّ لي، فهذه منظومة القيَم التي ألفناها حتى ظنناها شيءٌ عادي، هي منظومةٌ عظيمة من القيَم والأخلاق، والعالَم اليوم يتسابق إلى النَيل من هذه المنظومة القيَمية التي يعيشها المسلم، يريدون أن يُجرِّدوا المسلمين من هذه المنظومة وحالهم:

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82)
(سورة الأعراف)

لا نريد في هذا العالَم شخصٌ يقول هذا لا يجوز، كله يجوز، ذكَرٌ وأنثى يجوز، ذكَرٌ وذكَرٌ يجوز، وذكَرٌ وحيوانٌ يجوز، والحمَّامات مع بعضها، نريد أن ننتهي من قصة لحظة لأسأل، كلنا سنكون مثل بعض، كلنا غير منضبطين، والله هذا حال العالَم اليوم، العالَم اليوم سعَّيه أننا نريد أن نذهب إلى النار جميعنا معاً.
ألم يقولوا لترامب منذ يومين: هل تعتقد أنك ستدخل الجنَّة؟ فقال: لا شيء يُدخلني الجنَّة، وهو على باب الطائرة قالوا له: على اعتبار أنك تسعى لإيقاف الحرب، هل تعتقد أنَّ هذا الشيء سيُدخلك الجنَّة؟ قال: أنا لا أعتقد أنَّ هناك شيءٌ سيُدخلني الجنَّة، أنا لست من أهل الجنَّة أبداً، هل هي ذلّة لسان؟ أم هل هو كلام حقّ؟ الله أنطقه، فالنتيجة أنَّ العالَم اليوم يتسابق للنَيل من هذه المنظومة القيَمية التي نتعامل بها، أنا لا يجوز أن أظلم أحد، لا يجوز أن أؤذي أحد، هذا يجوز وهذا لا يجوز، هذه تحلُّ لي وهذه لا تحلُّ لي، هذا المال رِبا، هذا المال سرقة، هذا فيه غش وهذا فيه تدليس، منظومة قيَمية عظيمة نعيشها، جعلتنا في سكينةٍ وفي سلامٍ مع أنفسنا ومع الناس من حولنا.
الآن يحاول العالم كله أن ينتزعها، لأنه لم يبقَ إلا هي، يعني معظم بقايا الشرائع القديمة أصبحت طقوساً، إلا ما بقي منها من الفطرة السليمة موجود لا ننكره، لكن كمنظومةٍ اليوم: فقه، وحديث، ودراسة، ومُبطلات، ويجوز، ولا يجوز، مُبطلات كذا، مكروهات، هذه المنظومة العظيمة غير موجودة الآن إلا في ديننا الدين الإسلامي، فاليوم يتسابق الغرب أو الشرق للنَيل من هذه المنظومة، فأسأل الله تعالى أن يُعيننا على مزيدٍ من الطاعة لله تعالى ولرسوله.

الدعاء:
اللهم إنا نسألك لأهلنا في غزَّة فرجاً عاجلاً، نسألك يا الله يا أرحم الراحمين، أن تُهلِك عدوّهم، وأن تُثبِّتهم، وأن ترحمهم، وأن تُطعِم جائعهم، وتكسو عُريانهم، وترحم مُصابهم، وأن تجعل لنا في ذلك عملاً صالحاً مُتقبَّلاً.
اللهم أطعِم من أطعمنا، واسقِ من سقانا، وأكرم من أكرمنا، اللهم بارك البيت والدار وأهلها، وبارك من فعل فيها خيراً، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله ربِّ العالمين.