• الحلقة 28
  • 2023-04-19

فليغرسها

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(59)
(سورة الأنعام)

السلام عليكم:
عالم الغيب لا يلغي عالم الشهادة
عند حديثنا عن عالم الغيب بهذا التوسع قد يتوهم بعض الناس أن عالم الغيب يلغي عالم الشهادة، الإسلام العظيم لا يريد منك أن تلغي عالم الشهادة، بل يريد منك أن تعيش الشهادة وعينك متطلعة إلى الغيب، فعالم الغيب لا يلغي عالم الشهادة، بل يتكامل معه، نحن نعيش في الدنيا في عالم الشهادة، ولكننا نتطلع إلى عالم الغيب، والمسلمون في عصورهم الزاهرة تفوقوا في شتى الميادين، وهم يعيشون عالم الشهادة، ولكنهم مانوا يبتغون فيما آتاهم الله تعالى الدار الآخرة، فهو يعيش الشهادة، ويستصحب في كل حركة من حركاته، وسكنة من سكناته عالم الغيب.
في هذا المعنى حديث شريف يأخذ بالألباب، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها. }

(صحيح الجامع)

قامت الساعة، جاء الغيب المنتظر، وبين يديه فسيلة من عالم الشهادة، فماذا يصنع؟ لن ينتفع أحد بظلها، ولا بثمرها، بل إنها لن تنمو أصلاً، فلماذا يغرسها؟ يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لنا: لا تتركوا الدنيا، فإنكم إن تركتم الدنيا أخذها غيركم، ثم تحكموا بكم من خلالها، فالمؤمن القوي

{ الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. }

(صحيح مسلم)

المؤمن لا يترك الدنيا
فلذلك المؤمن لا يترك الدنيا، ولكنه يعمل فيها ولا يعمل لها، فيجعلها تنقاد له ولا ينقاد لها فيعصي الله تعالى من أجلها، إذاً عالم الغيب لا يلغي عالم الشهادة، ولكن إيمانك بالغيب يدفعك إلى استنفاذ الجهد في عالم الشهادة، عالم الغيب لا يلغي الشهادة، لكنه يلغي الحرام، ويرشّد الحلال، فيحيا الإنسان في الدنيا يأكل، ويشرب، ويتزوج، ويبني، ويعمر الأرض بالخير والبركة، ولكن هدفه هو الآخرة، والدنيا ليست أكبر همه، وليست مبلغ علمه، في هذا المعنى يقول تعالى جل جلاله:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
(سورة القصص)

وسواء فهمنا ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ بمعنى أن تأخذ من حلالها، أو فهمنا ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ بالمعنى الثاني وهو أن تأخذ من الدنيا ما يعينك على الآخرة، فعلى الحالتين أنت تأخذ من الدنيا، وأنت لا تنسى نصيبك من الدنيا، ففي الدنيا ما ينبغي أن تأخذه لأنها مطية الآخرة، ولكننا نجعل الدنيا وسيلة، ولا نجعلها غاية، عالم الشهادة وسيلة وليس غاية، والذين لا يؤمنون بالغيب يقلبون الوسائل إلى غايات، فيعيشون للدنيا، فيجعلون الوسيلة غاية فتصبح الدنيا منتهى آمالهم، ومحط رحالهم، فإذا انقضت الدنيا وقفوا بين يدي الله تعالى مفلسين؛ لأنهم لم يقدموا لآخرتهم شيئاً.
ما أريد قوله في هذه الحلقة؛ أن حديثنا الذي سبق في حلقات كثيرة عن عالم الغيب لا ينبغي أن يوهمنا للحظة أننا نقصد منه أن نلغي عالم الشهادة، بل إننا نريد منه أن يكون مستصحباً في كل لحظة ونحن نعيش عالم الشهادة، حتى إذا توازنا بين الشهادة التي نحياها والغيب الذي ينتظرنا كان النجاح والتوفيق والفلاح حليفنا.
إلى الملتقى، أستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.