الصلاة
رحلة التغيير
يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
لا بُدَّ أن تهجُر المكان الذي لا تستطيع عبادة الله تعالى فيه:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: لربما كنت في مجتمعٍ تضعُف فيه عن إقامة دينك وعبادة ربِّك، إمّا لوجود جهةٍ قويةٍ تمنعك، أو لانتشار المعاصي والآثام، التي بمجموعها تُضعِفُك عن الالتزام بأمر الله، إذاً لا بُدَّ أن تهجُر هذا المكان فوراً، لأنَّ الله تعالى خَلَقَنا لعبادته، وما دام هذا المكانُ حالَ بيني وبين عبادة الله، فيجب ألّا أبقى فيه أبداً. |
قد يُعرَض عليك مبلغٌ من حرام، أو تَعرِض لك شهوةٌ لا ترضي الله تعالى، فتقول بأعلى صوتك: معاذ الله، إنّي أخاف الله رب العالمين، هنيئاً لك فأنت مُهاجر، وفي الحديث: |
{ المسلمُ من سَلِمَ المسلمونَ من لسانهِ ويدهِ، والمهاجرُ من هجر ما نهى اللهُ عنه }
(أخرجه البخاري ومسلم)
ربما انتشرت المعاصي والآثام، وكثُرت الفِتن واختلطت أمور الناس، وهذا ما يُسمّى بالهرج، ولكنك على الرغم من ذلك، بقيت مُتمسكاً بدينك، عابداً لربِّك، مُباركٌ لك فأنت مُهاجرٌ إلى الله، وفي الحديث القدسي: |
{ الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ }
(صحيح مسلم)
أن ينقضي عامٌ وأن يأتي عام معنى ذلك أنَّ العُمر يمضي:
أيُّها الإخوة الكرام: انقضى عامٌ هجري وجاء عامٌ هجريٌ آخَر، وما معنى أن ينقضي عامٌ وأن يأتي عام؟ معنى ذلك أن العُمر يمضي، وأنَّ لحظة المُغادرة قد اقتربت، وكأنَّ مُنادياً يُنادي: يا عباد الله قد اقترب لقاء الله، فماذا أعدَدتم له؟ هذا هو معنى مضي الأيام، هذا ما يستشعره المؤمن عندما يمضي يومٌ ويأتي آخَر، أو يمضي شهرٌ ويأتي آخَر، أو تمضي سنةٌ وتأتي أُخرى، فنحن محكومون بالموت مع وقف التنفيذ: |
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ(30)(سورة الزمر)
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني{ أحمد شوقي }
وصدَقَ الحسَن البصري إذ عرَّف الإنسان فقال: << أيُّها الإنسان إنما أنت بضعة أيام إذا انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك >>. |
فلو أنَّ فلاناً من الناس، له عند الله سبعون سنة وأربعةُ أشهُر وخمسةُ أيام وأربع ساعات وعشر دقائق وثلاثُ ثوانٍ، هذا هو فلان، كلما انقضت ثانية نقص جزءٌ منه، لأنه قد اقترب من نهايته، من المغادرة من الدنيا إلى الآخرة، من انتهاء الامتحان إلى بدء الحساب والجزاء. |
الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل لذلك اعتمدها عمر رضي الله عنه للتاريخ الهجري:
أيُّها الإخوة الكرام: اجتمع الصحابة الكرام وعلى رأسهم خليفة المسلمين عُمر رضي الله عنه، ليتَّخذوا قراراً كيف يبدؤون التاريخ الإسلامي، قال بعضهم نؤرِّخ بمولده صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون بل نؤرِّخ ببعثته ببداية البعثة النبوية، وقال ثالثٌ بل نؤرِّخ بوفاته فهو حدثٌ مهمٌ جداً، فاختلفت الآراء، فقال عُمر رضي الله عنه: الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل فأرِّخوا بها، واعتُمدَ التاريخ الهجري إلى يومنا هذا مبدأً للتاريخ الإسلامي، لماذا؟ يُشير عُمر رضي الله عنه إلى أنَّ الهجرة ليست حدثاً عابراً، انقضى بانقضاء زمانه وظروفه، ولكنها حالةٌ مستمرة نحتاج دروسها في كل زمانٍ ومكان إلى يوم القيامة. |
لم يختاروا مولده صلى الله عليه وسلم، ولا بعثته، ولا وفاته، فهذه أحداثٌ ربَّانيةٌ صِرفة، مَن الذي تدخَّل في يوم مولده صلى الله عليه وسلم؟ هذا ما أراده الله، ومَن الذي فعل فعلاً فجاءت بعثته؟ هذا قدر الله، ومَن الذي ساهم في تحديد يوم وفاته؟ حاشا أن يُساهم أحدٌ في تحديد وفاة إنسانٍ أو مولده. |
أمّا الهجرة فكانت حركةً، لم تكن حدثاً عابراً، كانت حركةً تركها الله تعالى للسُنَن الكونية، أراد الله تعالى في الهجرة أن تكون وفق السُنَن الكونية، أن تكون فعلاً بشرياً، لا شكَّ أنَّ كل أمرٍ في الوجود هو تقديرٌ من الله تعالى، لكن الله تعالى أراد في الهجرة أن يقوم البشر بحركةٍ، أن يبذلوا جُهداً، أن يدفعوا أذىً، أن يطلبوا خيراً، أن يفعلوا فعلاً، هكذا كانت الهجرة، فلذلك كان من فقه الصحابة وعلى رأسهم عُمر رضي الله عنهم أجمعين، أن يجعلوا الهجرة التي هي الحركة الحقيقية لتغيير الواقع، مبدأً للتاريخ الإسلامي. |
الهجرةُ حركةٌ مدروسةٌ واعيةٌ لتغيير الواقع نحو الأفضل:
أيُّها الإخوة الكرام: الهجرةُ حركةٌ مدروسةٌ واعيةٌ لتغيير الواقع نحو الأفضل، هذه هي الهجرة في عمقها، الحياة أيُّها الكرام لا تقبَل السكون، كل شيءٍ من حولنا يتغيَّر، والذي لا يُغيِّر يتراجع، لا يبقى في مكانه فحسب بل يفوته الركب، نحن في كل يومٍ نُغيِّر، نُغيِّر من حياتنا، نُغيِّر من أساليبها، التاجر الذي لا يُغيِّر تكسد بضاعته، وكل إنسانٍ لا يُغيِّر في أساليبه يُصبح من الماضي، فالحياة لا تقبل السكون هي تغييرٌ مُستمر، فلذلك كانت الهجرة حركةً مدروسةً واعيةً لتغيير الواقع نحو الأفضل، قال تعالى: |
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72)(سورة الأنفال)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي اعتقدوا، الإيمان اعتقاد، اعتقد آمَن بالله، آمَن بملائكته، بكتبه، برسله، باليوم الآخر، بالقضاء، آمنوا فكراً (وَلَمْ يُهَاجِرُوا) أي لم يتحركوا وفق إيمانهم، قال: (مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ) ليس لهم عليكم حقُّ الولاء، لأنهم لم يتحركوا لنصرة دينهم، ليس في ديننا مؤمنٌ سكوني، يؤمن ويجلس، المؤمن يتحرَّك لنصرة دينه، لخدمة عباد الله تعالى، للقيام بما أمره الله تعالى به، يؤمن ويتحرَّك، فالهجرة هي الحركة الواعية التي نريدها من كل مسلمٍ، وليس فقط ما كان بين مكَّة و المدينة، يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الهِجْرَةِ، فَقالَ: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا }
(صحيح مسلم )
ما معنى أن يقوم إنسانٌ اليوم فيجمع أغراضه ويحمل زاده، ثم يترك مكَّة ويذهب إلى المدينة، أين الهجرة في الأمر؟! وقد يسَّر الله تعالى أن انتشر الإسلام، وأصبحت شعائره تُقام في مكَّة والمدينة، قال: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) الهجرة مُستمرة، ولكن ليس بالانتقال من مكَّة إلى المدينة وإنما بالانتقال المُستمر من واقعٍ سيء إلى واقعٍ أفضل، من معصيةٍ إلى طاعة، من سكونٍ إلى حركة، هذه هي الهجرة أيُّها الكرام، قال تعالى: |
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)(سورة النساء)
ظلم النفس هو المعصية:
ظلمتم أنفسكم بمعصية الله لماذا؟ ظلم النفس هو المعصية، الإنسان ليس ضعيفاً لكنه يُستضعَف، استضعفنا أعداؤنا، منعونا من شعائر الله، أو في عصرنا هذا وجِد في مجتمعٍ لا يمنعه أحدٌ من الصلاة، ولكن مجتمعٌ فيه الفسق والفجور والاختلاط غير المُنضبِط وتدار فيه الخمور، فلم يقُم إلى الصلاة لأنَّ المجتمع استضعفه، لأنَّ انتشار المعاصي والآثام جعله غير قادرٍ على القيام بأمر الله تعالى (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا). |
ما الذي أعدَّه النبي صلى الله عليه وسلم لرحلة التغيير؟
أيُّها الإخوة الكرام: ما الذي أعدَّه النبي صلى الله عليه وسلم لرحلة التغيير؟ هذه الرحلة المُباركة التي نحتفل بها كل عام. |
أولاً: دراسة الواقع قبل التحرُّك للتغيير، رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج كما يظن البعض إلى المدينة هكذا، لكنه قبل ذلك هيئ المجتمع الجديد لتقبُّل الواقع الجديد، فبعث مصعب بن عُمير رضي الله عنه مُقرئ المدينة وعالِمها وسفير الإسلام الأول، بعثه إلى المدينة ليُهيئ المسلمين هناك لاستقبال الواقع الجديد والدين الحميد. |
بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية، كانت تهييئاً من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم للمسلمين هناك، حتى إذا جاء استقبله الجميع، واستقبلوا دين الإسلام العظيم، لأنه دَرَسَ الواقع. |
اليوم كثيرٌ من الحركات التي لا تدرُس الواقع، تريد أن تُغيِّر من غير دراسة، تؤدّي إلى نتائجٍ كارثية، تبقى آثارها المُدمِّرة عشرات السنين، لأنه لم يدرُس الواقع، فلا بُدَّ قبل أن تُغيِّر أي شيء، حتى إذا كنت مديراً في شركة، وأردت أن تُغيِّر موظفاً أن تستبدله وتأتي بآخَر، أحياناً يستعجل يقول لك سأصرِف الموظف، ثم يكتشف أنَّ هذا الموظف يملِك من الملفات الحسَّاسة والأمور المهمة في الشركة، ما يجعله يعرقل مسيرة الشركة، هذا غيَّر لكنه غيَّر دون أن يدرُس الواقع، فأدَّى تغييره إلى مشكلةٍ في الشركة لأشهُرٍ معدودة. |
التغيير دائماً أيُّها الكرام يحتاج أن تدرُس الواقع، حتى إن أردت أن تُغيِّر ضمن أسرتك، أو أن تُغيِّر ضمن حيِّكَ، أو ضمن المسجد، أو في أي مكان، انظر أين هُم الناس، ابدأ بالأولويات، لا بُدَّ من دراسة الواقع قبل البدء بالتغيير. |
الأمر الثاني أيُّها الكرام: في ترتيبات النبي صلى الله عليه وسلم لرحلة التغيير، هي ترتيبات الرحلة نفسها، النبي صلى الله عليه وسلم ماذا صنع في رحلة الهجرة؟ أولاً جهَّزَ الراحلة، ما قال أمشي وأجِد من يحملني، جهَّزَ راحلتين، كان أبو بكرٍ رضي الله عنه قد جهَّزَ راحلتين: |
{ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ، إمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً، حَتَّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السَّاعَةَ إلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ، تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ“، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، وَمَا ذَاكَ؟ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَة، قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الصُّحْبَة، قَالَت: فو الله مَا شَعُرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتهمَا لِهَذَا. فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَطِ- رَجُلًا مِنْ بَنِي الدُّئَلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا- يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا }
(السيرة النبوية لابن هشام)
جهَّزَ راحلتين أبو بكر، اشتراهما بثمانمئةِ درهم، وجعل يعلفُهما ويُهيئهُما قبل أشهُرٍ، من أجل هذه الرحلة، فأعطى النبي هاتين الراحلتين لعبد الله بن أُريقط وقال له: " إذا مضت ثلاث ليالٍ فاتّبَعنا إلى غار ثور"، الرحلة مُهيأة ليست عابرة، ليست قُم وانهض لنذهب معاً، هناك تهييئاتٍ لرحلة التغيير. |
السرِّية التامة في رحلة الهجرة:
الأمر الثاني في الرحلة السرِّية التامة: (أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السَّاعَةَ إلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ، تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ“) السرِّية التامة، استئجار الدليل، استأجر النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أُريقط لأنه كان خبيراً بالطريق ليدلُّه على الطريق، وما قال إنَّ الله يهديني، والله سهديه جلَّ جلاله والله يهدينا جميعاً، لكن القدَر نؤمن به لكن لا نحتج به، اليوم المسلمون يحتجّون بالقدَر، فإذا وقع في معصيةٍ يقول لك: الله قدَّر عَليَّ، نحن نؤمن بالقدَر لكن لا نحتج به على تقصيرٍ وقعنا به، فالنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ الأسباب، أسبابٌ عظيمة، ثم أمر عليّاً رضي الله عنه أن يبقى في فراشه، ليظن المشركون أنه ما زال في الفراش، ثم خرج مُتخفّياً من الباب الخلفي، لم يخرُج على رؤوس الأشهاد. |
تروي الأخبار أنَّ عُمر رضي الله عنه يوم خرج وقف وقال: " من أراد أن تثكله أُمه فليتبعني خلف هذا الوادي"، أنا مُهاجر، فهل كان عُمر رضي الله عنه أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا والله: |
{ كُنَّا إذا احمرَّ البأسُ، ولَقيَ القومُ القومَ، اتَّقَيْنا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فما يكونُ منَّا أحَدٌ أَدْنى منَ القومِ منه }
(أخرجه أحمد والنسائي في السنن الكبرى)
لشدّة شجاعته، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة التغيير يُعلِّمنا أن نتخذ الأسباب، موقف عُمر رضي الله عنه موقفٌ شخصي، لكن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفٌ تشريعيٌ لأمته إلى يوم القيامة، فاقتحام المخاطر ليس مطلوباً شرعاً. |
كلَّف أبو بكر ابنه عبد الله ليأتيهما بالأخبار، كان ينزل إلى مكَّة في النهار ويسمع الأخبار، ويأتي في الليل ليخبرهما، ثم يتبَعه عامر بن فهيرة ليمحو الآثار، حتى لا يستَدِلّوا على مكانه، أدق التفصيلات في رحلة الهجرة كانت ملاحظةً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قال أترك الطعام وأتوكل على الله تعالى، هذا ليس تَوَكلاً، كلَّف أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين أن تأتي لهما بالطعام، سار مساحلاً، اختار طريقاً مُغايراً، الناس يخرجون شمالاً خرج إلى الساحل جنوباً، واختبأ في غار ثور ثلاثة أيامٍ حتى يهدأ الطلب، كل هذه الأسباب اتخذها نبينا صلى الله عليه وسلم ليُعلِّمنا أنَّ هذه الرحلة هي رحلة السُنَن. |
مقارنة بين رحلة الإسراء والمعراج ورحلة الهجرة:
مقارنة سريعة أيُّها الكرام بين رحلة الإسراء والمعراج ورحلة الهجرة، الإسراء والمعراج معجزة، الهجرة وفق السُنَن الكونية، المقارنة بينهما: |
من مكَّة إلى المدينة المنورة أربعمئة وخمسون كيلو متراً، من مكَّة إلى بيت المقدس آلاف الكيلو مترات، ثم عُروجٌ إلى السماء مسافات لا يعلمها إلا الله، رحلة الهجرة أربعة عشر يوماً في أصحّ الأقوال، رحلة الإسراء والمعراج تعطَّل فيها الزمن، هي جزءٌ بسيطٌ من ليلة، رحلة الهجرة أعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم لها راحلتين، بينما رحلة الإسراء والمعراج أرسل الله له البُراق، فوجد نفسه في بيت المقدس ثم في السماء، تعطَّل الوقت تعطَّل الزمن كله، الهجرة تمَّت وفق السُنَن الكونية، الإسراء والمعراج مُعجزةٌ بذاته، لكن الهجرة كانت مُعجزةً بنتائجها، كأنَّ الهجرة تقول للمسلمين: اصنعوا في الهجرة المعجزة بنفسكم، أنتم اصنعوا المعجزة. |
لقد صنع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة مُعجزةً عظيمةً جداً، وفق القوانين والسُنَن، لكنه سلك بها الطريق التي شرعها الله تعالى، وكانت حركةً مدروسةً واعية، فغيَّرت الواقع، وبَنَت دولة الإسلام التي ما نزال ننعُم بخيراتها إلى لحظتنا هذه، ونجلس في مساجد الله، ونُصلّي في بيوت الله، ببركة هذه الرحلة المُباركة، لأنها كانت حركةً مدروسةً واعية. |
الإسراء معجزةٌ خارج القوانين لكن في الهجرة اصنع المعجزة بنفسك:
أيُّها الإخوة الكرام: الإسراء معجزةٌ خارج القوانين، نحن مُتعبَدون فيها بالتصديق فقط، كيف يتعبَّدُنا الله في الإسراء والمعراج؟ أن نُصدِّق: |
{ لما أُسرِيَ بالنبيِّ إلى المسجدِ الأقْصى، أصبح يتحدَّثُ الناسُ بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به، و صدَّقوه، و سَعَوْا بذلك إلى أبي بكرٍ، فقالوا: هل لك إلى صاحبِك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ، قالوا: أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ و جاء قبل أن يُصبِحَ؟ قال: نعم إني لَأُصَدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك، أُصَدِّقُه بخبرِ السماءِ في غُدُوِّه أو رَوْحِه، فلذلك سُمِّي أبو بكٍر الصِّديقَ }
(أخرجه الحاكم والبيهقي)
إمامُنا في ذلك أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، لكننا متعبّدون في الهجرة ليس بالتصديق فقط، ولكن بالتطبيق العملي في الأخذ بالأسباب والتوكل على ربّ الأرباب، في الهجرة اصنع المعجزة بنفسك، قُم، تحرَّك، اغرس بذرةً في الأرض ثم توكل على الله جلَّ جلاله. |
الأمر الأخير في الهجرة أيُّها الكرام، هو اليقين بالله وصدق التوكل عليه، أراد الله تعالى أن يصل المشركون بعد كل هذه الأسباب، أراد أن يصلوا إلى الغار، ليظهَر توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله، قال أبو بكر رضي الله عنه: |
{ قلتُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في الغارِ: لو أنَّ أحدَهم ينظرُ إلى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنا تحتَ قَدَمَيْهِ، فقال: يا أبا بكرٍ ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما }
(أخرجه البخاري ومسلم)
{ عن البراء بن عازب رضي الله عنه، من حديث الهجرة عن أبي بكر رضي الله عنه: فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرسٍ له، فقلت: هذا الطلب، قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إنَّ الله معنا }
(متفق عليه)
لنعلم جميعاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب تعبُّداً، ولكنه حاشاه لم يتوكل عليها، ولم يعتمد عليها، وإنما كان اعتماده على الله، وهذا الدرس نحن بحاجته في كل لحظةٍ، في كل شأنٍ، الطالب يدرس ويجتهد لكنه لا يعتمد على دراسته بل يعتمد على الله، خَرَجتَ في نُزهةٍ تفقَّد السيارة قبل أن تخرُج، لكن لا تعتمد على ذلك، قُل يا ربّي سلِّم. |
مرِضَ ابنك نسأل الله السلامة خذه إلى الطبيب واتَّبِع التعليمات بدقة، ولكن إيّاك أن تظن أنَّ الطبيب يشفي، الله هو الشافي، هذا الدرس أن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ونتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هو درس الهجرة الأعظم. |
الدين منصورٌ بك أو بغيرك فكُن أنتَ صاحب الشرف:
أيُّها الإخوة الكرام: في سورة التوبة نقرأ قوله تعالى : |
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)(سورة التوبة)
متى نزلت سورة التوبة؟ في السنة التاسعة للهجرة، أي بعد الهجرة بتسع سنوات، وما زال القرآن يذكُر الهجرة لأهميتها، ويُذكِّر من تقاعسوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فيقول لهم: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) الدين منصورٌ بك أو بغيرك، أنتَ إمّا أن تحوذ هذا الشرف وتُكتَب في لوحة الشرف، أو أن تترك ذلك فيأتي غيرك. |
هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم(38)(سورة محمد)
كُن أنتَ صاحب الشرف، نحن لا ننصُر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، نحن ننتصر به، نحن لا ننصُر دين الله نحن ننتصُر بدين الله، فحدِّد موقعك أين أنتَ من نصرة دين الله؟ أمّا الدين فمنصورٌ بي أو بغيري: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) أنتم اليوم عشرات الألوف إلى تبوك، والحر شديد، والمسافة طويلة (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ) لم يكن الإسلام إلا رجُلين في الغار ونصره الله بغيركم (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ). |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا. |
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن. |
اللهم أهلنا في غزَّة، أهلنا في فلسطين، أهلنا في كل مكانٍ يُذكر فيه اسمك يا الله، نسألك إلهي أن ترحمهم وأن ترفع البلاء عنهم. |
اللهم إنّا نسألك أن تُطعِم جائعهم وأن تكسو عُريانهم وأن ترحم مُصابهم وأن تؤوي غريبهم، وأن تجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً وسهماً صالحاً، وأن تجعلنا في نصرة دينك وكتابك وسُنَّة نبيَّك صلى الله عليه وسلم. |
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، من عبادك المحسنين، اللهم ابسُط أمنك وأمانك على بلادنا وبلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليها لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيَّك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين. |