ثلاثية بناء النفس

  • خطبة جمعة
  • 2025-04-18
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

ثلاثية بناء النفس

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا أيُّها الإخوة الأكارم: نحن في زمنٍ وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال:

{ يأتي علَى النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهِم على دينِهِ كالقابِضِ على الجمرِ }

(صحيح الترمذي)

{ بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا }

(صحيح مسلم)


يجب على الإنسان بناء نفسه بناءً إيمانياً قوياً:
وما ذاكَ إلا لكثرة الشهوات والشُبهات، الشهوات التي تُغري النفوس، والشُبهات التي تعصف بالرؤوس، ففي كل يومٍ تُطالعك شهوةٌ، تحاول أن تتَسلل من طرفٍ خفي إلى داخلك، وتُطالعك عبر وسائل الإعلام شبهةٌ، تحاول أن تنال من ثوابتك، فإذا لم يبنِ الإنسان نفسه بناءً إيمانياً قوياً، عصفَت به الفتن، كلنا يبني بيته، ويحاول أن يُحصِّنه من أن يسقط، حتى لا يُصيبه بسوءٍ، وكلنا يبني جسده، فيأكل ويشرب المُفيد من الطعام والشراب، ويداوي جسده إن ألمَّت به مُصيبةٌ أو ألمَّ به مرض، هذا البناء للجسد والبناء للبيت أمرٌ مهم، لكن المُقدَّم عليه هو بناء النفس، لأنَّ النفس سقوطها يعني خسارة الأبد، بينما المشكلة في الجسد تنتهي عند الموت، أمَّا المشكلة مع النفس فتبدأ آثارها المُدمِّرة عند الموت، فلأن نحرص على بناء نفوسنا أكثر من بناء أجسادنا، فلهذا أمرٌ مهمٌ عظيم، يقول تعالى:

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)
(سورة التوبة)

إذا نظرنا أيُّها الإخوة في ماضينا، وفي تاريخنا، وفي قصص القرآن الكريم، نجد أنَّ أولئك الثابتين الذين ثبتوا على الحق، هُم أولئك الذين بنوا أنفسهم بناءً إيمانياً قوياً.
هذا سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبيننا شبابٌ كُثر، ما الذي جعله يقف هذا الموقف الإيماني الراسخ:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)
(سورة يوسف)


الإيمان الحقيقي يظهر عند الابتلاء:
ما الذي جعله يواجه هذا الإغراء الكبير، من امرأة العزيز، هو في بيتها، وهي تحرص كل الحرص على إخفاء هذه المعصية، وهو قمةٌ في الوسامة والجمال، وهي تدعوه إلى نفسها، وقد غلَّقت الأبواب وأحكمت القضية، ما الذي جعله يقول: (مَعَاذَ اللَّهِ ۖ ) إنه البناء الإيماني، ليست الوقفة الصحيحة عند المِحن والابتلاءات والمصائب، ليست وليدةً أو طارئةً، إنها نتاج بناءٍ إيماني، لا تقُل لماذا صمَد فلان، ولماذا زلَّت قدم فلان، ليس الأمر طارئاً، ليست لحظةً، هي بناء، فمن بنى نفسه بناءً إيمانياً، وتوكل على الله تعالى، عصمه الله، هذه معادلة، ومن كان بناءه هشاً ضعيفاً، سقطت قدمه وزلَّت عند أول مصيبة، الناس جميعاً في زمن الرخاء يتساوون تقريباً في المواقف، المؤمنون، لكن متى يظهر الإيمان الحقيقي؟ عند الابتلاء، وكلنا مُعرَّضون للابتلاء، ما منّا إلا وسيُبتلى نسأل الله العافية، لكن الله تعالى قال:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)
(سورة المؤمنون)

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)
(سورة الملك)

فالابتلاء لا بُدَّ منه، فإن لم يكن هناك بناءٌ إيمانيٌ يصمُد في وجه الفتن، زلَّت قدم الإنسان، يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه:

{ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ، ثنا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّوِيلُ، ثنا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي:" إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ " قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ:خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رحمه الله }

(رواه الحاكم)

ما الذي كان يشغَل سعد بن الربيع وهو في اللحظات الأخيرة من حياته؟ وأيُّ بناءٍ إيماني ذاك الذي بناه سعدٌ، حتى صمَد في تلك الساعة الأخيرة من حياته؟! هذا هو البناء الإيماني الذي يصُمد صموداً تَحار فيه العقول.
خُبيبُ بن عدي وهو على خشبة الصلب، في التنعيم في ظاهر مكَّة المُكرَّمة، حاولوا للحظة الأخيرة أن يعبثوا بدينه وبمبادئه، فأرادوا أن يستخرجوا منه كلمةً تُرضي غرورهم، فقالوا له: " أتُحب أنَّ محمداً مكانك وأنت ناجٍ؟ فقال لا والله، ما أُحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي، عندي عافية الدنيا ونعيمها، وأنَّ محمداً يوخز بشوكةٍ".
هذا الرجُل بنى إيمانه بناءً صادقاً قوياً، كان بوسعه أن يقول وقلبه مُطمئنٌ بالإيمان، ويُعطيهم هذه الكلمة: ليتني نجوت وأنَّ محمداً هنا، لعلهم يُخفِّفون العذاب عنه، أو لعلهم يؤخِّرون الموت عنه، أو ربما عفوا عنه، لكن خُبيباً بنى إيمانه بناءً، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تنال منه، وليس الأمر مُقتصراً على الرجال:

{ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْن ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ فَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا ، قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ ، فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ " }

(أخرجه الطبري في تاريخه وابن المنذر في تفسيره والبيهقي في دلائل النبوة)

فلمّا وصلت إليه، وكحَّلت عينيها بمرآه سالماً، والدعوة سالمة، والإسلام بخير، قالت له يا رسول الله: (كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ) أي هيِّنة ولا أُبالي، ما دمت بخيرٍ وعافية.

الثبات على المبادئ و بناء النفس بناءً إيمانياً لم يخلُ منه زمانٌ من الأزمنة:
وحتى لا نبقى في التاريخ، فإنَّ الثبات على المبادئ، وإنَّ بناء النفس بناءً إيمانياً، لم يخلُ منه زمانٌ من الأزمنة، وحاشا أن يخلو زماناً من الأزمنة، فما رأيناه في بلادنا في السنوات العشر الأخيرة، وفي الزلزال الذي أصاب بلادنا قبل سنوات، من صمود الناس، كان شيئاً يدل فعلاً، على أنَّ النفوس قد بُنيت بناءً صحيحاً، ولم يتعلق البناء أبداً بشهادةٍ علمية، ولا بمرتبةٍ أكاديمية، بل وجدنا من الأُمهات اللواتي ربما لا تقرأ إحداهُن أو تكتب، ثباتاً يشيبُ له الولدان، وما نراه اليوم على أرض غزَّة، من رجُلٍ يُخرج يحمل بين يديه ابنه، الذي قتلته يد الإجرام الصهاينة المعتدون، ثم يقول يا ربي لك الحمد، هذا بناءٌ إيماني، أهل غزَّة محاصرون من خمسٍ وعشرين سنة، لكن حدثني من الثقات، مَن زارهم بأنَّ المساجد تعجُّ بمن يحفظون كتاب الله، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار.
البناء الإيماني على كتاب الله، وعلى سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يحميك بعد التوكل على الله، عند الأزمات وعند الفتن وعند المصائب.

عوامل بناء النفس بناءً إيمانياً قوياً:
أيُّها الإخوة الأحباب:
كيف نبني أنفسنا بناءً صحيحاً؟ أو قُل ما عوامل بناء النفس؟ سألخِّص ذلك في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: التقرُّب إلى الله تعالى، لن تُبنى النفوس بناءً صحيحاً، إلا بالتقرُّب إلى الخالق جلَّ جلاله.
ألا تريد أن تكون قوياً؟ إذاً تقرَّب من القوي.
ألا تريد أن تكون رحيماً؟ إذاً اتصل بالرحيم.
ألا تريد أن تكون رفيقاً مع أهل بيتك؟ إذاً ناجِ الرفيق جلَّ جلاله.
ما لم نتقرَّب إلى الله تقرُّباً صحيحاً، فليس هناك بناءٌ إيماني، الإيمان يُبنى بالتقرُّب إلى الله تعالى أولاً، ألم يقُل تعالى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
(سورة الأعراف)


أول ما تُبنى به النفوس التقرُّب إلى الله تعالى بما يُحب:
المعنى الأول: والذي قال به كثيرٌ من أهل العلم، قُل يا رحيم ارحمني، فأنت تدعو الله بأسمائه الحُسنى، قُل يا غفور اغفر لي، يا قوي قوّني، لكن المعنى الأعمق (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) أي خُذ نصيبك من كل اسمٍ من أسماء الله الحُسنى، فإذا أردت أن يرحمك الله فارحم خلقه، وإذا أردت أن يودَّك الله الودود، فكن ودوداً مع خلقه (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) إذاً نحن بحاجةٍ ماسَّة إلى التقرُّب من الله تعالى، هو تقرُّب عبودية لا شك في ذلك، لكن مع تقرُّب العبودية، هو تقربٌ نحن في حاجته، لن تستقيم حياتنا إلا بالقرب من خالقنا جلَّ جلاله، إنًّ الله تعالى يقول كما في الحديث القدسي:

{ إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ. }

(صحيح البخاري)

الصلوات الخمس، صيام رمضان، الزكاة المفروضة، حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، غض البصر، حفظ اللسان (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه) لا يقبَل الله نافلةً ما لم تؤدَّى الفريضة، فالتقرُّب إلى الله أولاً، يكون بصلاةٍ مُتقنة، بخمس صلواتٍ في اليوم والليلة، ثم يكون بصيام شهر رمضان، ثم يكون بأداء الزكاة المفروضة، وبحفظ الجوارح عن المحارم، ثم يقول تعالى: (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ) بعد الفرائض يأتي التقرُّب بالنوافل، صلاة الضُحى، قيام الليل، صيام الست من شوال، صيام الأثنين والخميس من كل أسبوع، ثلاثة أيامٍ في الشهر، الصدقات فوق الزكاة، العمرة إلى العمرة (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ).
ما الذي يحصل بعد ذلك؟ كيف يُبنى الإيمان بذلك؟ قال: (فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).
ما معنى كنت سمعه؟ لا يسمع إلا ما يُرضي الله.
ما معنى كنت بصره؟ لا يُبصر إلا ما يرضى الله عنه، فلا يُطلِق بصره في الحرام.
ما معنى كنت يده؟ لا يُحرك يده إلا في طاعة، لا يعصي الله بيده.
ما معنى كنت رجله التي يمشي بها؟ لا يتحرك إلا إلى المساجد، إلى صلة الأرحام، إلى شيءٍ يُرضي الله تعالى، لا يُحرك رجله في معصيةٍ، لا تقوده قدمه إلى ما يعصي الله تعالى به.
أيُّها الإخوة الكرام: أول ما تُبنى به النفوس، التقرُّب إلى الله تعالى بما يُحب، من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وأمّا ثاني العوامل في بناء النفس بناءً إيمانياً قوياً: فهو المُجاهدة، العامل الأول التقرُّب إلى الله، والثاني المُجاهدة، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)
(سورة العنكبوت)

أي حملوا أنفسهم على طاعة الله (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على حبّ الرّضاع، وإن تفطمه ينفطم وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هـما محضاك النُصـحَ فاتَّهم
{ الإمام البوصيري }
لو نصحتك نفسك أنَّ النوم أفضل من القيام، فاتَّهم نفسك، لو وسّوَس لك الشيطان أنَّ إطلاق البصر لا شيء فيه، فاتَّهم شيطان نفسك وغض بصرك.
أيُّها الإخوة الأحباب:
كان أحد التابعين ثابت البنَّاني يقول: " تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعّمت بها عشرين سنة، والله إني لأدخل فيها وأنا أحمل هم خروجي منها"، يعني عشرون سنة وهو يُجاهد نفسه في الصلاة، النفس تقول له لا تُطِل وهو يُطيل في الصلاة، النفس تقول له أخِّر عن وقتها، وهو يؤدّيها في وقتها، عشرين سنة وهو يُجاهد نفسه، قال ثم تنعَّمت بها عشرين سنة، يعني أصبح حاله:

{ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ ‌رَجُلٌ ‌قَالَ ‌مِسْعَرٌ: ‌أُرَاهُ ‌مِنْ ‌خُزَاعَةَ ‌لَيْتَنِي ‌صَلَّيْتُ ‌فَاسْتَرَحْتُ، ‌فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها }

(أخرجه أبو داوود وابن أبي شيبة والإسماعيلي)

مَن منّا حاله مع الصلاة أرِحنا بها، ومَن حاله مع الصلاة أرِحنا منها؟ كلاهما أدّى الفرض وأسقط الواجب، وإن شاء الله قُبِل عند الله، قُبِلت صلاته إن شاء الله، ما دام أدَّاها وحمل نفسه عليها، فالتكليف فيه كُلفة، لكن متى نصل إلى أرِحنا بها؟ يقول ثابت: والله إني لأدخل في صلاتي وأنا أحمل هم خروجي منها، لعلَّ أحدكم قُدِّر له أن يُصلّي صلاةً من هذا النوع، في بيت الله الحرام مثلاً، وهو يحمل هم الخروج من الصلاة، يقول يا ليت الإمام لا يتوقف عن القراءة، لأنه تنعَّم بالصلاة.

الحياة فيها مجاهدة للنفس ومُجاهدة للشيطان وأعظم المُجاهدة مُجاهدة النيِّات:
أيُّها الإخوة الكرام:
الإمام أحمد رحمه الله سُئل متى الراحة؟ هذه المُجاهدة المستمرة للنفس، متى الراحة؟ فقال: "الراحة عند أول قدمٍ تضعها في الجنة"، الحياة فيها مجاهدة للنفس، ومُجاهدة للشيطان، وأعظم المُجاهدة مُجاهدة النيِّات، أن نُجاهد نوايانا أيُّها الكرام.
النبي صلى الله عليه وسلم، اتجه إلى تبوك بجيشٍ قوامه ثلاثون ألف مُقاتل في حرٍّ شديد، ظهرت الثمار في المدينة، الناس استطابوا المدينة، وهو يُخرج إلى تبوك في حرٍّ شديد، يقول عُمر رضي الله عنه: لقد أصابنا عطشٌ شديد في تبوك، وفي الطريق، حتى ظننا أنَّ رقابنا ستتقطَّع من شدة العطش، بعد العودة وهنا المفاجأة، يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

{ لقد ترَكْتُمْ بالمدينةِ أقوامًا ما سرتُمْ مسيرًا ولا أنفقتُمْ من نفقةٍ ولا قطعتُمْ من وادٍ إلَّا وَهُم معَكُم قالوا : يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يَكونونَ معَنا وَهُم بالمدينةِ ؟ قالَ: حبسَهُمُ المرضُ }

(أخرجه البخاري)

ما عنده راحلة، مريض، كبير في السن يُريد أن يخرُج، نيِّته طيِّبة جداً، لكن الإمكانيات ضعيفة.
من أعظم المُجاهدة أن يُجاهد الإنسان نيِّته، فالإنسان يبلُغ بنيِّته ما لا يبلغه عمله.
كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: " يا بُني انوِ الخير فإنك بخيرٍ ما دمت ناوياً للخير"، وكان يُقال: " نيِّة المؤمن خيرٌ من عمله، ونيِّة الكافر شرٌّ من عمله" المؤمن نيِّته خيرٌ من عمله، هو يعمل عملاً وفق إمكانياته، لكنه ينوي الأكثر، فيُحاسب ويُكافأ على نواياه، والكافر ينوي إجراماً وطُغياناً أكبر وأكبر، لكنه لا يستطيع، فالنيِّة مهمةٌ جداً أيُّها الكرام، وأعظم المُجاهدة أن يُجاهد الإنسان نيِّته في الصالحات، وفي الأعمال الطيبات.

المُحاسبة من عوامل بناء النفس:
العامل الأول التقرُّب إلى الله، والثاني المُجاهدة، والثالث المُحاسبة.
المُحاسبة من عوامل بناء النفس، التاجر إذا ترك دفاتره دون تدقيقٍ يوميٍ أسبوعيٍ شهري، فإنه بعد حينٍ يضيع، لا بُدَّ من المُحاسبة وإلا ضاع الأمر، فالمُحاسبة عاملٌ مهمٌ في بناء النفس

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ(47)
(سورة الأنبياء)

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)
(سورة الحجر)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18)
(سورة الحشر)

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ(18)
(سورة الحاقة)

أحد الصالحين نظر في نفسه، فإذا عمره ستون سنة، فعدَّ أيامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألف يوم، فقال: "يا ويلتاه أألقى الله بواحدٍ وعشرين ألف ذنب"، هذا إذا كان في اليوم ذنبٌ واحد، فكيف إذا كان في اليوم ذنوبٌ كثيرة، مَن حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً، كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومَن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً.
يعني بكلام العوام: لا تُدقِّق، وربك غفورٌ رحيم، كلمة حق أُريد بها غير الحق، ونحن عبيد إحسان، وتوكل على الله، وليس كل شيء حرام وحلال!!
دخل عُمر رضي الله عنه يوماً بستاناً من بساتين الأنصار، وأنس بن مالكٍ يراقبه، فإذا به يسمعه يقول: "عُمر أمير المؤمنين بخٍ بخٍ، والله لتتقينَّ الله، أو ليعذِّبنك الله"، يقف مع نفسه موقف مُحاسبة، والمُحاسبة أيُّها الكرام تكون قبل العمل، وتكون بعد العمل، فقبل أن تدخل في عملٍ صالح، تُحاسب نفسك، لعلَّ فيه رياءً أو سمعةً، لعلَّ فيه إهانةً للفقير، دعني أُرسله له بعزة نفس، حساب قبل العمل، ثم بعد العمل تُحاسب نفسك، لعلَّ العمل شابَهُ شيءٌ من الرياء، فتستغفر الله منه، فيُحاسب المؤمن نفسه قبل العمل وبعد العمل.
جاء أعرابيٌ إلى سيدنا عُمر رضي الله عنه، وقد قرضَ الجوع بطنه، وبه من الفقر ما به، فقال له مُنشداً شِعراً:
يا عُمر الخيرِ جُزيتَ الجنة اُكْسُ بُنيّاتي وأُمّهن وكــُن لنا من الزمان جُـنّـهْ أُقسم بالله لَـتَفعَـلـَنّ * * *
قال عُمر وإن لم أفعل يكون ماذا؟
قال:
واللـه عنـهُــنَّ لـتـُسـألـنّ يومَ تكون الأعطياتُ منّـة وموقفُ المسؤول بينهُنّ إمّا إلى نارٍ وإمّا إلى جنّة * * *
فلم يملِك عُمر إلا أن ذرفت دموعه، وما كان معه إلا رداءٌ على كتفيه، فنزعه ووضعه على كتفي الرجُل وقال له:
خُذ هذا ليومٍ تكون الأُعطياتُ منّة ومـوقــف الــمسـؤول بـيـنهُــنَّ إمّــا إلـى نـارٍ وإمــا إلـى جــنَّـة * * *
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا.
اللهم إنّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل.
اللهم أهلنا في غزَّة كُن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً وسهماً صالحاً، واغفر لنا تقصيرنا يا أرحم الراحمين
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، سريع الحساب، هازِم الأحزاب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيّدهم ومَن وقف معهم في سرٍّ أو علن، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين.
اللهم وفِّق مَن ولَّيتهم أمورنا إلى ما فيه مرضاتك، وإلى العمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعل بلادنا أمناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
وصلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.