عالم الشهادة وعالم الغيب

  • خطبة جمعة
  • 2025-02-21
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

عالم الشهادة وعالم الغيب

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: ففي عالمنا عالَمان، عالَم الشهادة وعالَم الغيب، وهذان العالَمان لا ينفكّان في فكر المسلم وعقيدته، فلا يكاد يفارقه أحدهما، فهو يقدر بينهما بشكلٍ دائم.

عالم الشهادة:
عالم الشهادة ما ندركه بحواسّنا، ما نسمع الصوت أو نُبصره بأعيننا، وهذا العالَم أيُّها الكرام، نُدخل فيه المُدخلات من خلال الحواس، فأنا أسمع الآن صوتاً أُدخله، أرى شجرةً مثمرةً، أُدخل هذه المُدخلات، ثم يتم العقل، أي المعالجة، ثم تكون المُخرجات، فنُدخل المُدخلات، نعقلها، ثم تكون المُخرجات، لمّا تحدَّث ربنا في القرآن الكريم عن أهل النار وهم في النار، تحدَّث عنهم:

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير(10)
(سورة الملك)

(لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) أدخلنا المُدخلات بالشكل الصحيح، بالسمع المطلوب، ليس السمع الذي لا تعقله الإجابة، وإنما السمع الحقيقي، يعني لو أنَّ إنساناً يمشي وأنت خلفه، وجدت على كتفه عقرباً كبيراً، فقلت له: يا فلان على كتفك عقرب، فالتفت إليك بكل هدوء وقال لك: شكراً لهذه الكلمة، وشكراً لأنك أخبرتني، إذاً هو لم يسمع ما قلته له، دخل إلى أُذُنه ولكنه لم يعقل ما قلت له، لو عقل ما قلت له، لانتفض فوراً وخلع رداءه، هذا الذي سمع.

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(21)
(سورة الأنفال)

فليس السمع أن تُدخل الكلمة، وتتحرك بها الحبال والأُذُن، ثم تصل إليك، السمع يعني أن تستجيب

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)
(سورة الأنفال)

هذا هو السمع (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) دخلت المعلومة وعالجناها بالشكل الصحيح (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

ما أعطى الله الإنسان حاسةً إلا وجعل في المخلوقات الأُخرى مَن يفوقه فيها:
أيُّها الإخوة الكرام: هذا عالَم الشهادة وهذا إدراكه، ونحن لا نكاد نختلف فيه من حيث المبدأ، فكل ما نرى ونسمع، نشم ونتذوَّق، ونلمس، ونعي من خلال هذه الحواس، وهي نِعم الله تعالى العظيمة، ولكي لا يفتخر الإنسان بشيءٍ من حواسه، فما أعطاه الله حاسةً، إلا وجعل في المخلوقات الأُخرى مَن يفوقه فيها، فإذا قال أنا بصري حاد، قلنا له إنَّ الصقر يرى السمكة في الماء، من مئات الأمتار، وينزل إليها ويأخذها، وإن قال لك أنفي لا يُخطئ، قلت له إنَّ من المخلوقات مَن يشُمّ ويُستخدَم على الحدود، ليشُمّ الروائح التي لا يصل إليها شمُّ الإنسان أبداً، وإن قال لك أنا أملِك الحاسة السادسة، قلت له إنَّ من الحيوانات، أعزَّكم الله، مَن يتنبأ بالزلزال قبل وقوعه، فيهرب وأنت تبقى حتى يقع الزلزال، فلا تفتخر بحواسك، فما أعطاك الله من الحواس أعطاه لغيرك.

عالم الغيب:
العالَم الثاني هو عالَم الغيب، وهو موضوع حديثنا، الغيب ما غاب عنك، الغيب لا تدركه بحواسك، ولكنه خبر تؤمن به، إذا كان المُخبِر صادقاً، نحن الآن نجلس في هذا المسجد المبارك، نحن لا نعلم الآن ما يجري في الشارع الموازي لهذا المسجد، لو جاء إنسان الآن وقال لك: جرى كذا وكذا، إن كان صادقاً صدَّقنا، وإن كنّا نعلمه كاذباً شككنا

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)
(سورة الحجرات)


عالَم الغيب هو ما غاب عنك بشكلٍ مطلق:
الصادق نُصدّقه، الفاسق نتحقق، الكاذب نُكذِّبه، هذا عالَم الغيب، لأنه الآن غائب عن حواسنا، لكنه ليس غيباً مُطلقاً، هو غائبٌ عنّا، ولكن الذين في الشارع يدركونه بحواسهم، لكن ما غاب عنك بشكلٍ مُطلق، هو عالَم الغيب، الجنَّة، النار، اليوم الآخِر، الصراط، الأنبياء، الملائكة، الجن، هذا غيب، وعالَم الغيب اليوم مُغيَّبٌ في عالمنا الإسلامي، بل في العالم كله، فأنت إذا تابعت الإعلام، أو تابعت حديثاً يجري في سهرةٍ، أو في أي مكانٍ، تجد الناس جميعاً يتحدثون، عن عالَم الشهادة فقط، اليوم ما يراه، وما يسمعه، وما يشاهده بعينه، يُحدِّثك عن كل الدنيا، لكن قلَّ أن تجد مَن يُحدِّثك عن الغيب، مع أنه أهم من عالَم الشهادة بمليون مرة، لكنه مُغيَّبٌ في خطابنا الدنيوي للأسف، لأنَّ عالَم المادة سيطر علينا، فكل شيءٍ نقيسه بالمادة، بما نراه، بما نشاهده.
أيُّها الإخوة الكرام: قال تعالى يصف المُعرضين عن منهجه، قال:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)
(سورة الروم)

(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا عالَم الشهادة، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الغيب، لا ينتبهون لعالَم الغيب أبداً، ربنا جلَّ جلاله امتنَّ على الإنسان، فقال في كتابه:

أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ(8)
(سورة البلد)


مَن يرى الدنيا فقط فهو أعمى يرى بعينٍ واحدة:
قال علماء الأحياء: لو جعل له عيناً واحدة لأبصَر، ولكنه لا يرى العمق والبعد الثالث، لذلك من منّة الله على الإنسان، أنه خلق له عينين وليس عيناً واحدة، حتى يُدرك الأشياء على حقيقتها الكاملة، بالعمق، بالبُعد الثالث، قياساً على ذلك، مَن يرى الدنيا فقط فهو أعمى، يرى بعينٍ واحدة، فلا يُدرك حقيقة الأشياء، ولا يُدرك مآلها، ولا يُدرك مستقبلها، هو فقط يشاهد الدنيا، قال تعالى يعيب عليهم:

ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ(30)
(سورة النجم)

هذا هو علمهم فقط، الدنيا فقط، منتهى الآمال ومحط الرحال، يظن أن الدنيا هي كل شيء، وهذه مُصيبة المصائب، لذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو:

{ اللَّهمَّ اقسِم لنا من خشيتِكَ ما تحولُ به بينَنا وبينَ معاصيكَ، ومن طاعتِك ما تبلِّغُنا بِه جنَّتَك، ومنَ اليقينِ ما تُهوِّنُ بِه علينا مصيباتِ الدُّنيا، ومتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا أبدًا ما أحييتَنا واجعلهُ الوارِثَ منَّا، واجعل ثأرَنا على من ظلَمَنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتَنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدُّنيا أَكبرَ هَمِّنا ولا مبلغَ علمِنا ولا تسلِّط علينا من لا يرحَمُنا }

(أخرجه النسائي والطبراني)

هي همٌّ من الهموم، من منّا لا يهتم بالدنيا، من منّا لا يهتم بمستقبل أولاده، من منّا لا يهتم برزقه وطعامه، هي هم لكنها ليست أكبر الهموم (ولا مبلغَ علمِنا) هي علم، يتعلم الطب والهندسة والصيدلة وكل شيء، هي عِلم ولكنها ليست مبلغ العِلم، مبلغ العِلم هو الآخرة (ولا تجعلِ الدُّنيا أَكبرَ هَمِّنا ولا مبلغَ علمِنا).
أيُّها الإخوة الأحباب: في مطلع سورة البقرة، يصف الله تعالى عباده المؤمنين فيبدأ بأول صفة:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)
(سورة البقرة)


لماذا بدأ ربنا بالإيمان بالغيب ثم ثنَّى بالصلاة والإنفاق:
ثم قال: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لماذا بدأ ربنا بالإيمان بالغيب؟ ثم ثنَّى بالصلاة والإنفاق، لماذا تُصلّي؟ لماذا سنقف أنا وأنت بعد قليل، بين يدي الله تعالى لأداء صلاة الجمعة؟ إيماننا بالغيب، ما الذي يدفعنا أن نأخذ من وقتنا دقائق لنقف بين يدي الله؟ وإذا كان الجو بارداً، مع الوضوء قبلها بالماء البارد مثلاً، ما الذي يدفعك لهذا؟ إيمانك بالغيب فقط، أمّا لو كان الإيمان بالشهادة فقط، لقضيت هذا الوقت خلف الشاشة، لماذا تقف وتركع وتسجد؟ إيمانك بالغيب، ما الذي يدفعك أن تنفق مما رزقك الله، تدفع من مالك، تُعطي، إيمانك بالغيب، لذلك بدأ بالإيمان بالغيب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
أيُّها الإخوة الأحباب: عندما تعرِض امرأةٌ نفسها على شابٍ مؤمن، كما حصل مع سيدنا يوسف، ما الذي يدفعه أن يقول:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)
(سورة يوسف)

إيمانه بالغيب، لماذا غيره يراها مغنماً ومكسباً، ويقضي معها وقتاً بالحرام؟ لأنه غير مؤمنٍ بالغيب حقيقةً، ولو قالها بلسانه، لماذا يكون الموظف خلف مكتبه، فتأتي له رِشوة بمبلغٍ كبير، ليوقِّع توقيعاً لا يُرضي الله؟ لماذا الأول يُعرِض ويركُل المبلغ بقدمه؟ وهو بأمسّ الحاجة إليه، بينما الثاني يقبله، إيمانه بالغيب، ما ينتظرني عند الله من ثوابٍ وسكينةٍ في الدنيا، وأجرٍ عظيم يوم القيامة، أكبر عندي من هذا المال، الإيمان بالغيب، الإيمان بالغيب إن استقر في عقيدتنا، قلَبَ حياتنا، وقلَبَ موازيننا.

الإيمان أن تصدق الخبر من الله ومن رسوله كأنك تراه بعينيك:
أيُّها الإخوة الأحباب: أيهما أوثَق عالَم الشهادة أم عالَم الغيب؟ يعني أنت إذا سُئلت سؤالاً الآن، أنت تؤمن بالخبر أكثر أم بما تراه بعينك أكثر؟ يعني الجواب بالعين، شيءٌ أراه بعيني مثل الخبر، ما أرها بعيني أوثَق عندي مما يأتيني بالخبر، لأنَّ المُخبر ولو كنت تعلم عنه الصدق مئة بالمئة، لكن أنت لم ترَ بعينك، قد يكون توهَّم بشيءٍ، لذلك قالوا: ليس مع العين أين، تراه بعينك، يعني إذا إنسان قال لي الآن، أنا مؤمن أنَّ هذه منصة وهذا مُكبِّر صوت، وأنا مؤمنٌ مثلك، ولا داعي لأن تقول لي أنا مؤمن، لا داعي للإيمان لأنه شيءٌ نراه بأعيننا، ليس مع العين أين، شيء واضح.
لكن عندما يكون المُخبر هو الله جلَّ جلاله، أو هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون خبره كأنك تراه بعينك، بل أوثَق مما تراه بعينك، أوثَق مما نراه بأعيننا، قال تعالى مخاطباً نبيُّه صلى الله عليه وسلم:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)
(سورة الفيل)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)
(سورة الفجر)

لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأحداث، جرت قبله، لم يراها، لماذا لم يقل له ألم تسمع بما فعل ربك، قال ألم ترَ؟ لأنَّ خبر الله يجب أن تتلقاه وكأنك تراه بعينك (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ).
أحد السلف الصالح كان بين أصحابه، فقال لهم مُفاجئاً لهم: لقد رأيت الجنَّة والنار عياناً، بعيني رأيت الجنَّة والنار، قالوا له: كيف ذاك؟! انظر فيما تقول، فو الله ما أحد رأى الجنّة والنار عياناً، قال: والله لقد رأيتهما عياناً، قالوا: كيف ذاك؟! قال: رأيتهما بعينَي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعينَي رسول الله، أصدق عندي من رؤيتي لهما بعينَي، لأنَّ بصري قد يزيغ وقد يطغى، أمّا بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17)
(سورة النجم)

عندما يأتي الخبر من الله أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقل كيف، وإنما تلقاه وكأنك تراه بعينك.
هذا أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه، ما الذي جعله الصدِّيق إلى يوم القيامة وإلى الأبد؟ أنهم جاؤوا إليه فقال له المشركون: إنَّ صاحبك أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يزعُم أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس ثم عُرِج به إلى السماء، هذا امتحان الخبر، الغيب، الآن سيدنا أبو بكر لم يقل لهم أعطوني خمس دقائق حتى أتحقَّق، ما قال لهم كيف، يعني كيف ينتقل ويرجع وفراشه ما زال دافئاً، قال: إن كان قال فقد صَدَق، شكّي في نقلكم، لعلكم تنقلون شيئاً لم يحدث، أنتم قد تكذبون، لكنه إن كان قال ذلك فهو صادق، انتهى الأمر.
عندما يصل المؤمن إلى أن يقول كما كان يقول سيدنا سعد: " ثلاثة أنا فيهن رجُل وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس، وعدّ منها ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا علمت أنه حقٌّ من الله"، عندما يصل المؤمن إلى هذه الحقيقة، هذا هو الإيمان.

العقل أن تصل إلى الشيء بالخبر قبل أن تصل إليه بالجسد:
أيُّها الإخوة الكرام: قالوا: العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، يعني أن تصل إليه بالخبر قبل أن تصل إليه بالجسد، لو أنَّ إنساناً قلنا له هذا المكان فيه كهرباء توتر عالي، خطر الموت، أي لمس صاعق، قال لك أنا لا أؤمن بالخبر، قد تكون كاذباً، أُريد أن أُجرِّب بنفسي، دخل ووضع يده على التيار فصعقه التيار، علِم أنَّ هناك تيار كهربائي، لكن فات الأوان توفي رحمه الله، علِم الآن أنَّ هناك تيار لكن انتهى الوقت.
طالب على كرسي الامتحان لم يعرف الإجابات نهائياً، انتهى الوقت سُحبت الورقة، فتح الكتاب قال: قد عرفت الإجابة، انتهى الوقت، عرفت الإجابة لكن بعد انتهاء الوقت، لن تنفعك شيئاً، العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، عندما تصل إليه بجسدك انتهى الأمر.
فرعون وهو أكفر كفار الأرض، لمّا وصل بجسده إلى الموت قال:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)
(سورة يونس)

انتهى الوقت، لكن وصل إلى الحقيقة بعد نهاية الوقت، بعد فوات الأوان ما الذي ينفعه؟

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)
(سورة الأنعام)


من سُنَّة الله تعالى إذا أنزل الآية توقف الإمهال:
أيُّها الإخوة الكرام: الأقوام السابقة كانوا يطلبون الشهادة ليؤمنوا، فعاب الله عليهم ذلك، انظروا إلى قوم موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55)
(سورة البقرة)

هذا ليس إيماناً، بطولتك أن تؤمن بوجود الله، ووحدانيته، وكماله، وأنت لا تراه بعينيك (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ).
قوم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112)
(سورة المائدة)

نريد أن نرى شيئاً بالعين، الغيب لا يُقنعنا، ماذا قال لهم عيسى عليه السلام؟ (قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) إن كان عندكم إيمانٌ بالغيب، اتقوا الله أن تطلبوا طلباً من عالَم الشهادة، وما تنفع الشهادة.

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ(115)
(سورة المائدة)

نحن في مُهلةٍ وفي بحبوحة، نُخطئ ونعود، ونُخطئ ونعود، والله يقبلنا لأننا مؤمنون بالغيب، لكن لو أصبح الأمر شهادةً انتهى الإمهال، فمن رحمة الله بنا أنه يُعطينا فرصة تلوَ الفرصة، ليزيد إيماننا بالغيب، ليست بطولتك أن تؤمن وقد رأيت بعينك.

وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ(8)
(سورة الأنعام)

أي لا يُمهلون، فيأخذهم الله بالعذاب، البطولة في الإيمان بالغيب، فيما ينتظرنا عند الله.

كيف ينعكس الإيمان بالغيب على سلوكنا؟
كيف ينعكس ذلك على سلوكنا أيُّها الكرام؟ راعٍ يرعى غنمه في شِعَب الجبال، مرَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فرآه من بعيدٍ، وضعوا طعاماً ليأكلوا فنادى أيُّها الراعي تعال كُلْ معنا، قال الراعي: إني صائم، قال له عبد الله: في هذا اليوم شديد الحر، وأنت ترعى الغنم في الجبال؟! قال: أُبادر أيامي، أصومه ليومٍ أشدَّ منه حراً، إيمانٌ بالغيب صائم، نفل، في شِعاب الجبال، المهمة صعبة، رعي أغنام، وجو حار، أصومه ليومٍ أشدَّ منه حراً، أُبادر أيامي التي ستأتي، إيمانٌ بالغيب.
هنا عبد الله بن عمر، يعني لعلَّه تحرك شيءٌ في داخله، ما هذا الرجُل الذي يتكلم بهذه الفصاحة وهذا العِلم؟! فقال له: أعطنا شاةً مما عندك، بِعنا شاةً نذبحها ونأكل عليها وتفطر عليها معنا، قال: ليست لي، هذه الشياة لسيدي، قال له: وما عساك أن تقول لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب، قال: إنّي لفي أشدّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت لصدَّقني، فأنا عنده صادقٌ أمين، ثم رفع أُصبُعه إلى السماء وهو يقول: ولكن أين الله؟ أين الله؟ أين الله؟ ثم مضى وهو يقول أين الله؟ فأصبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول لأصحابه: قال الراعي: أين الله؟ قال الراعي: أين الله؟
هذا هو الإيمان بالغيب، هذا الذي يصنع المعجزات، الإيمان بالغيب، القصة التي حفظناها يوم كنّا صغاراً، روتها لنا المعلمة في المرحلة الابتدائية:
قالـت بنيّـة قومـي فامـذقي اللبنـا فالماء سوف يزيد الوزن والثمنا قالـت لها البنت: يا أمّـاه معـــذرةً لقـد نهى عـُمـر أن نخـلِط اللّبــنـا قـالـت لهـا أمّـها: أنّـى يرى عـمـر صـنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا قـالت لهـا ابنـتها: لا تفعـلـي أبــداً الـلّه يـعــلم منّـا الســــرَّ والعــلـنا إن لـم يكن عمـر الفـاروق يبصـرنا فــإنّ ربّ أبي حفــص هنـا معنــا
سمعها عمر، وضع علامةً على البيت، في الصباح قال لخادمه انظر مَن في البيت، فعلم من هي الفتاة، فأقسم على أولاده ليزوجنَّها إلى أحدهم، قال: لو لي حاجةٌ إلى النساء لتزوجتها، فقال عبد الله لي زوجة، قال الثاني لي زوجة، وقال عاصم زوجّني يا أبي فزوجَّه، هذه الفتاة هي جدة عمر بن عبد العزيز، الذي أعاد للخلافة راشديتها، لأنَّ عمر رضي الله عنه، أدرك أن التي تخشى الله في الغيب، ستُربّي جيلاً مُختلف.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حِذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، وأستغفر الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الإيمان بالغيب لا يعني إهمال عالم الشهادة:
أيُها الإخوة الأحباب: ملاحظتان أخيرتان:
الأولى: الإيمان بالغيب لا يعني ترك الشهادة، حتى لا نفهم الأمور خطأ، فَهِم بعض المسلمين في بعض العصور المتأخرة، أنَّ الإيمان بالغيب يعني إهمال عالَم الشهادة، فجاء مَن أخذ الدنيا وتحكَّم بنا من خلالها، الإيمان بالغيب يعني أن أعيش الشهادة، وأنا أنظر بالعين الأُخرى إلى الغيب، العينان معاً لتكتمل الرؤية.

{ إن قامتِ السَّاعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةٌ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتَّى يغرِسَها فليغرِسْها }

(أخرجه البخاري)

قامت الساعة، جاء الغيب المُنتظر، وبقي شيءٌ من الشهادة، أن تغرس فسيلة فافعل، لكن لماذا تزرعها؟ إرضاءً لله، فلا نترك عالَم الشهادة، ولكن لا ننسى عالَم الغيب، نعيش الشهادة ونحن نستصعد عالَم الغيب دائماً، حتى يُصحِّح عالَم الغيب مسارنا في عالَم الشهادة.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)
(سورة القصص)

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) غيب، (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) الشهادة، في رضا الله.

لا يعلم الغيب إلا الله:
الملاحظة الثانية: يستغل الكثيرون عالَم الغيب للعبث بعقائد الناس الغيبية.

قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(65)
(سورة النمل)

لا يُقبَل من إنسانٍ أن يقول أنا أعلم الغيب، لا مُنجِّم، ولا ساحر، ولا كاهن، ولا يُقبَل من إنسانٍ أن يحتال لأنه شيخ، ويضع على رأسه عمامة ويلبس ثياب الشيوخ، لا يُقبَل منه أن يتصدَّر المجلس، ويحدِّث الناس بغير قال الله وقال رسول الله في عالَم الغيب، فيروي لهم من الخوارق ومن الأشياء الكثيرة العجيبة الغريبة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ليكسب تأييدهم وسَمعَهم، وهو يروي لهم من عالَم الغيب لأنه غيب، فأنا أُحدِّثكم وكأنني مندوبٌ عن الله تعالى، لا يُقبَل أننا في عالَم الغيب، أن نسمع إلا لقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، الغيب لا يعلمه أحد، فأن يُحدِّثك إنسان، ويُدغدغ عواطفك بالدين، ويأتي بقصصٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ويُخالف الشريعة وكأنه يعلم الغيب، وكأنه ناطق عن ربِّ العِزَّة جلَّ جلاله، إياك أن تسمعه، هاتان الملاحظتان لنكمل الموضوع.

الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل مَن واليت ولا يعزُّ مَن عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلَكَ الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقرِّبنا إليك، اللهم يا واصل المنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همَّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ، مولانا ربّ العالمين.
اللهم أهلنا في غزَّة، كن لهم عوناً ومعيناً وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً، أدخل على قلوبهم الفرح والسرور يا أرحم الراحمين، وأدخل على قلوبهم الرضا والسكينة يا كريم.
اللهم يا أرحم الراحمين وفِّق ولاتنا لما فيه خير البلاد والعباد، اللهم وأعن من ولَّيتهم أمورنا على حمل أمانتك، وأدائها على أحسن وجه وأكمل وجه، وهيئ لهم البطانة الصالحة التي تأمرهم بالخير وتحثّهم عليه وتنهاهم عن الشر وتحذِّرهم منه، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله ربّ العالمين.