استحقاق البشارة

  • اللقاء الخامس من تفسير سورة البقرة | شرح الآيات 25 - 29
  • 2023-01-19

استحقاق البشارة


النبي صلى الله عليه وسلم هو المُبشِّر والبشير:
يبشّرنا المولى جلَّ جلاله، بل يأمر نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، أن يُبشِّرنا وهو المُبشِّر والبشير صلى الله عليه وسلم فيقول:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)
(سورة البقرة)

إذاً البِشارة مُختصةٌ بصنفٍ من الناس تحقق فيهم أمران: أمرٌ فكريٌ وأمرٌ سلوكي، أمرٌ نظريٌ وأمرٌ تطبيقي، أمرٌ عقديٌ وأمرٌ حركي (الَّذِينَ آمَنُوا) تلك هي العقيدة، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ذاكُم هو العمل، فكل مَن صحَّت عقيدته واستقام سلوكه، فهو مُبشَّرٌ بنَص هذه الآية.

لا بُدَّ أن يجتمع في المُبشَّر بهذه البِشارة أمران: إيمانٌ وعمل:
يعني الإنسان الذي آمن ولم يعمل الصالحات لا تعنيه هذه البِشارة، إذا قال أنا مؤمنٌ بوجود الله ووحدانيته وبالرسالة، لكنه لا يُصلّي هذه البِشارة لا تعنيه، قال أنا مؤمنٌ بالله وملائكته، وكتبه وأنبيائه ورسله، واليوم الآخِر، والقضاء خيره وشره من الله تعالى، ثم لم يعمل عملاً صالحاً، فهذا غير معنيٍ بالبِشارة، وأمّا الشخص الذي يقول أنا أعمل الصالحات لكن لست مؤمناً بوجود الله، أيضاً هذه البِشارة ليست له.
لا بُدَّ أن يجتمع في المُبشَّر بهذه البِشارة أمران: إيمانٌ وعمل، وفي القرآن الكريم دائماً يتكرر ربط الإيمان بالعمل، ودائماً وغالباً ما يرتبط العمل بالصالحات، الإيمان فكر والعمل سلوك، فإيمانٌ سكوني! أنا مؤمنٌ ثم لم يتحرك، هناك مشكلة، والذي يقول أنا أعمل الصالحات، أنا أُطعِم الأيتام والمساكين، لكن أنا ما عندي إيمانٌ باليوم الآخِر، ولا بالله تعالى، هذا ليس مُنجِّياً أمام الله، لا بُدَّ أن تؤمن وتعمل، ثم إن العمل ليس عملاً مطلقاً، كل الناس يعملون، الدنيا عملٌ وكدح

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ(6)
(سورة الإنشقاق)

لكن العمل ينبغي أن يكون صالحاً، ما معنى عمل صالح؟ يعني يصلُح للعرض على الله، متى يصلُح العمل للعرض على الله؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتُغي به وجه الله، وصواباً ما وافق شرع الله، يعني إذا إنسان قال: أنا عملت عملاً لوجه الله تعالى، ماذا عملت؟ أقمت حفلاً غنائياً، ودعوت له بعض المطربات والعياذ بالله، والمجون والخلاعة، لكن رصدت ريعها لدور الأيتام، هذا ليس عملاً صالحاً، هذا لا يُرضي الله ولا يصلُح للعرض على الله.

لا بُدَّ أن يجتمع في العمل حتى يكون صالحاً شرطان: أن يكون خالصاً وصواباً
ولو أنَّ إنساناً قال: أنا عملت عملاً صالحاً، ماذا فعلت؟ قال: بنيت مسجداً، ما نيَّتك؟ نيَّتي أن يقول الناس إنني مُحسنٌ و مُنفِق، هذا ليس عملاً صالحاً، لا بُدَّ أن يجتمع في العمل حتى يكون صالحاً شرطان، كلاهما لازمٌ غير كافٍ، الأول أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، والثاني أن يكون وفق منهج الله، وبغير ذلك ليس عملاً صالحاً.
إذاً هذه البِشارة مُختصةٌ بصنفٍ من الناس، آمن وعمل وكان عمله صالحاً، ما هذه البِشارة؟ قال: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) بِشارة الله تعالى ليست في الدنيا، لم يقل وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم عِمارات في أرقى الأحياء، ولا قال أنَّ لهم أموالاً لا تأكلها النيران، فهذا قارون جاءته أموال لا تأكلها النيران فكانت ناراً عليه أحرقته، لم يُبشّره الله تعالى بالدنيا، بشَّره بالجنَّة (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ولم يقل جنَّة وإنما قال جنَّات.
فإذا قال الله تعالى الجنَّة فتعني جنس الجنَّة، لكن الجنَّة ليست جنَّةً واحدة، كمن دخل إلى مكانٍ فيه عشرون بستاناً، فهذه بساتين وليست بستاناً واحداً، هنا جنَّات وليست جنَّةً واحدة (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وهذه لفتةٌ عظيمة في بيان أن يتصوَّر الإنسان هذه الجنَّة، التي تجري من تحتها الأنهار، منابعها في مكانٍ، وهو يعيش وتجري من تحته الأنهار، اليوم مهندسو الإنشاءات والديكورات والتصميم الداخلي، إذا أراد أن يضع شيئاً جميلاً في مدخل المحل التجاري، أو مدخل الفيلا، يضع زجاجاً ويضع تحته بعض الماء الذي يجري تحته، فيُعجب الناس بهذا المنظر الجميل، هذا على مستوى مترٍ مربع، لكن هذه الجنَّات التي فيها:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: أَعْدَدْتُ لعِبَادي الصَّالحين ما لا عَيْنٌ رأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَر على قَلب بَشَر }

(متفق عليه)

الأنهار تجري من تحتها، وليس نهراً واحداً، وليست ساقيةً، أنهار تجري من تحتها.
قال: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ) اليوم مثلاً أنت جاءتك تفاحة، أكلتها، جاءتك تفاحةٌ أُخرى، تقول هذا الذي ضيّفتني منه قبل قليل، لله المثل الأعلى، يقول لك صاحب المزرعة، هذه غير طعم تلك، المنظر واحد لكن الطعم مختلف، فهنا: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ) أي ثمار الجنَّة

فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ(68)
(سورة الرحمن)

الله تعالى عندما يتحدث عن الجنَّة يحدثنا أحياناً بألفاظ الدنيا ليُبيِّن لنا:
وكل ما ذكره الله تعالى بالمناسبة من ثمار الجنَّة، وأحوال الجنَّة، وطيِّبات الجنَّة، فإنما هو ليُبيِّن لنا ولندرك الأمر، وليس هو على النحو الذي فهمناه، يعني ليس رُمّان الجنَّة كرُمّان الدنيا، ليس بينهما أي تناسب، لكن حتى يُبيِّن لنا الله، يعني لو قال لنا الله أسماء أشياء لم نسمع بها في حياتنا كيف نتخيلها؟ لا معنى لها، لذلك الله تعالى عندما يتحدث عن الجنَّة يحدثنا أحياناً بألفاظ الدنيا

مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ(15)
(سورة محمد)

(فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) من أجل أن ندرك، لأن الكلمة أيتها الأخوات وأيُّها الأكارم: الكلمة إن لم يكن لها مرتكز في داخل الإنسان لا يدركه، الآن مثلاً لو قلت كلمة بحر، كلٌّ منكم كلمة بحر ذهبت به إلى البحر، الذي رآه إمّا حقيقةً أو على الشاشة، الماء الأزرق، الأمواج، الآن تخيَّلنا، لو الآن قلت لكم جيركتوز هل تخيَّل أحدٌ شيئاً؟! ما أحد تخيَّل وأنا لم أتخيَّل، لأن كلمة جيركتوز ليس لها أي مدلول، وهي كلمة تجميع، فالكلمة إن لم يكن لها مرتكز مادي في داخل الإنسان لا يفهمها أبداً، فلذلك ربنا جلَّ جلاله هنا يقول: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ) يرون الثمار متشابهة، لكن هي في الحقيقة كلٌّ منها بطعم، وحتى ثمار الدنيا وثمار الآخرة ليس بينهما أي تشابه، التفاح ليس كالتفاح والرُمّان ليس كالرُمّان

{ ما أخذتِ الدنيا من الآخرةِ إلا كما أخذَ مِخْيَطٌ غُمِسَ في البحرِ من مائِه }

(الألباني السلسة الضعيفة)

قال: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) في الشكل، لكن في الحقيقة الطعم والسرور بالطعم مختلفٌ تماماً.

نعيم الجنة لتكريم الإنسان ونهايةٌ لمتاعب الجسد:
قال: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) من نعيم الجنَّة أنَّ هناك أزاوجاً مُطهَّرين، طبعاً المرأة لها زوجٌ مُطهَّرٌ، والرجُل له زوجةٌ مُطهَّرة، في الدنيا أحياناً يكون الرجُل عنده أخلاقٌ سيئة، تُتعِب الزوجة، وتصبر عليها من أجل أن تستقيم الحياة وينتهي الأمر، والرجُل عنده زوجةٌ مُتعِبة أحياناً، لها متطلباتٍ زائدة عن الحدّ، فالحياة لا تخلو من كدر، لكن في الآخرة (أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) ومن طهارة الزوجة للزوج في الجنَّة، كما ذكر بعض أهل العِلم، ما يعتري بعض النساء من الأعذار التي تأتي المرأة، ففي الآخرة ليس هناك شيءٌ من ذلك، انتهت المشاق، جاء التكريم، الإنسان في الدنيا إذا أكل سيهضِم الطعام، وسيدخل إلى أمعائه ويحدُث الامتصاص، ثم يُلقي بفضلاته، هذه طبيعة الدنيا كلنا كذلك، وإذا شرب الماء بعد قليلٍ سيخرج إلى الحمَّام، في الآخرة انتهى هذا كله، هذا الجسد ومتاعبه انتهت، أصبح نعيماً في نعيم.
قال: (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والخلود في الجنَّة يعني أنهم لا يَخرجون منها ولا يُخرجون، فمَن دخل الجنَّة فقد خَلَد فيها إلى الأبد، وأمّا من دخل النار فخلوده فيها إمّا أبدا، وإمّا خلودٌ مؤقت، ويخرُج من هذا الخلود النسبي عندما يُطهَّر من ذنوبه.

معجزة الله في خلق البعوضة:
ثم يقول تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ(26)
(سورة البقرة)

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي) من الحياء، يعني أحياناً الإنسان إذا كان عنده فرش قديم مُهترئ، مُتَّسخ، وجاءه ضيفٌ مهم، يستحيي بهذا الأمر، هناك ما يدعو إلى الحياء، وإذا تكلم بفكرةٍ وهذه الفكرة غير صحيحة، وهي بديهية جداً، فضحك منه الناس يستحيي بفكرته، كما ورد في أسباب النزول، أنَّ بعض المشركين قالوا: ما بال هذا القرآن يذكر الذباب والنمل؟ القرآن فيه ذِكر، فيه سورة النمل وفيه النحل:

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68)
(سورة النحل)

وفيه الذُباب:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)
(سورة الحج)

فهذه الآية ردٌّ على من يقول إنَّ البعوضة لا قيمة لها، فكيف يذكرها القرآن؟! فالله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً) لأنكم لا تعلمون عن خلق الله شيئاً، اليوم البعوضة عندما اكتُشفت المجاهر الحديثة التي تُكبِّر الشيء آلاف وآلاف المرات، اكتُشف فيها أشياءٌ عجيبة، تلك العين الفسيفسائية المُركَّبة، التي تحوي مئة جزء من أجزاء العين، لتعطي صورةً كاملة من جميع الاتجاهات، ذاكم الجناحان اللذان يرفَّان رفَّات عديدة في الثانية، تلك القلوب في داخلها، هناك قلب مركزي، وكل جناح له قلب، مضخة لكل جناح، البعوضة التي تُحلِّل دم الإنسان، فلا تأخذ إلا الدم الذي يناسبها، تخدِّره فلا يشعر بها إلا بعد أن تلسعه، تملك جهازاً يصحُّ أن نطلق عليه جهاز استقبال حراري، فهي ترى الأشياء بحرارتها لا بأحجامها ولا بأشكالها، فتتجه إلى غرفةٍ مظلمةٍ مئة بالمئة، والطفل نائم على السرير، تتجه إليه لأنَّ حرارته سبعةً وثلاثين ونصف، أعلى درجة في الغرفة، فتتجه إلى جبينه وتقرصه، هذه المعجزة المذهلة في البعوضة!
خرطومها له ستة سكاكين، تُحدث جرحاً مربعاً في الجسم، ويلتئم خرطومان كلٌّ منهما نصف اسطوانة، لامتصاص الدم بعد أن تُميِّعه حتى يسري في خرطومها الدقيق، معجزة البعوضة! فالله تعالى لا يستحيي بشيءٍ من خلقه، لأنَّ خلق البعوضة عظيم، كخلق الحوت، وكخلق الفيل، وكخلق الإنسان، كله عند الله خلق وكله عظيم.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) فما فوقها في الصِغر أو في الكِبر، يوجد ما فوقها حتى الفيل وحتى الحوت الأزرق، الذي يزن مئةً وخمسين طن، ويوجد ما فوقها في الصِغر حتى الميكروبات وفيروس كورونا الذي لا يُرى بالعين، وكله خلق الله تعالى.

الله تعالى أراد بالأمثال في القرآن امتحان الناس فينجو المؤمن ويضل الكافر:
قال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) المُصدِّقون بالله تعالى وبوعده، وبجنَّته وبناره، يعلمون أنَّ هذا المثل حقٌّ من الله، مهما كان المثل، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الإنسان المُعرِض الذي لا يريد دين الله تعالى، الآن سيبحث عن أي شيءٍ، من أجل أن يُعرِض عن دين الله فيقول: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا) يعني ما هذا المثل السخيف البسيط في زعمه (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا)؟
الآن الجواب الإلهي قال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا)، (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا) انتهى الكلام، قال تعالى يردُّ على قول الكفار قال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) أراد الله تعالى بهذا المثَل وبغيره في كتابه، أن يمتحِن الناس، فيضل أقوامٌ بهذا المثَل ويهتدي أقوامٌ بهذا المثَل، وهذا شأن كتاب الله فهو حيادي.
الآية تأتي فيسمعها المؤمن ويسمعها الكافر، المؤمن يستجيب فينجو، والكافر يَضل فيُضل، والمؤمن يهتدي فيُهدى، فالله تعالى يضرب الأمثال، ونحن نأخذ الموقف منها، وكل شيءٍ في دين الله تعالى حيادي، لو أنَّ مجموعةً من الرجال يقفون في الطريق، ومرَّت امرأةٌ متبرِّجة، فهذا يُضَّل به قوم ويُهدى به قوم، فالذي يغضُّ بصره يُهدى، والذي يُطلِق بصره يُضَل، وعندما تصدر شُبهة على وسائل التواصل، فتصل إلى أُذُن مؤمن فيُنكرها فيهتدي بها، وتصل إلى أُذُن منافقٍ فيتشرَّبها وتعلق في قلبه فيُضَل بها.
فكل شيءٍ في الدنيا حيادي، أراد الله أن تكون الدنيا حيادية، على أبسط مثل، السكين تأكل بها تفاحةً أو يرتكب بها إنسانٌ ما جريمةً، الشاشة التي بين أيدينا اليوم، ننقل عبرها رسائل إيجابية ودروس عِلم، وتُفتح فيُنقل عبرها مئات رسائل الشُبهات والشهوات، فهذا المثل قال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) لو قال قائلٌ: الله أضلني فما ذنبي؟ جاء الجواب: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) المنحرفون الخارجون عن منهج الله، من هو الفاسق؟ الذين انحرف عن المنهج وخرج عنه، هذا الذي يُضله الله تعالى، لكن لا يُضل إنساناً يريد الحقّ، حاشاه جلَّ جلاله، من هم هؤلاء الفاسقون؟

من هم الفاسقون؟
قال:

الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(27)
(سورة البقرة)

النقض هو الإبطال، نقضت غزلها أي حلَّته، يعني إذا هناك عقدة بالحبل، نقضْتُ العقدة يعني حللتها، وهناك نقدٌ بالدال، النقد إيجابيٌ وسلبي، نقد النص الأدبي، نقد هذا اللقاء، تقول هنا جيد وهنا غير جيد، نقد، أمّا النقض بالضاد فهذا إبطال.
(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) أعظم عهدٍ عهده الله إلينا، ما كان في عالم الذَّر، يوم أشهدَنا على أنفسنا

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ(172)
(سورة الأعراف)

يوم عرض علينا الأمانة فحملناها، هذا أعظم عهدٍ بيننا وبين الله، فالذي ينقضه من بعد ميثاقه، فهذا فاسقٌ منحرف عن أمر الله عزَّ وجل، وبعد ذلك كل ما أمر الله به من الطاعة فهو عهد، وكل ما نهى عنه فهو عهد، فالعهد بيننا وبين الله أن نُصلّي، فمن ترك الصلاة فقد نقض عهد الله، والعهد بيننا وبين الله أن لا يغتاب بعضنا بعضاً، فمن وقع في الغيبة فقد نقض عهد الله.
قال: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) الله تعالى
أمر بصِلة الأرحام، فالذي يقطعها فقد فسَق وانحرف، والله تعالى أمر بالصِلة بينه وبين خلقه بالصلاة، فمن قطع الصِلة بينه وبين ربّه فقد فسق.

معنى الإفساد في الأرض:
قال: (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) الفساد في الأرض، الله تعالى خلق الأرض صالحةً، فالإفساد فيها على شقّين: ماديٌ ومعنوي، فالذي يضع الهرمونات في النباتات من أجل أن تنمو سريعاً، فيضر صحة الناس فقد أفسد في الأرض، والذي يُطعم البقرة الأسمدة الكيميائية، فتضر بصحة الإنسان بحليبها وبلحمها، فقد أفسد في الأرض، وبالوقت نفسه الذين يُقنعون المرأة أن تترك أولادها وتربية أولادها، وتخرج سافرةً لتفتن الناس عن دينهم، متبرِّجةً بدعوى الحضارة والحرية والحداثة، فقد أفسدوا في الأرض، والرجال الذين أُمروا بغضّ البصر، فإذا أطلقوا بصرهم في الحرام، فقد أفسدوا في الأرض وهكذا.
قال: (أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) خسروا دنياهم وخسروا أُخراهم، لأنهم أعرضوا عن منهج ربهم.

الله تعالى يُحيي ويُميت وإليه يرجع الأمر كله:
ثم يقول تعالى باستفهامٍ استنكاري:

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)
(سورة البقرة)

ما أعظم هذا الجُرم! الأب اليوم يقول لابنه: كيف تترك طاعتي وأنا الذي أنفقت عليك حتى تعلمت، وأنا الذي ربيِّتك، وأنا الذي علَّمتك، وأنا الذي طبَّبتك، كيف تترك طاعتي؟! هذا عتاب (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) موت العدَم قبل أن نأتي إلى الدنيا، (فَأَحْيَاكُمْ) هذه الحياة التي نحياها الآن، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وهو الموت عند نهاية الحياة، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وهو البعث.

قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ(11)
(سورة غافر)

فالموت مرتان والحياة مرتان، الموت الأول موت العدَم، والموت الثاني ما يكون بعد الحياة الدنيا، والحياة حياتان: حياةٌ دنيا وحياةٌ عُليا تكريمية.
قال: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد أن يُحييكم المرجع إليه، ليُحاسبكم على أعمالكم صغيرها وكبيرها، أيليق بكم أن تكفروا بالإله العظيم، الخالق الذي يُميت ويُحيي وإليه يرجع الأمر كله؟!

كل شيء خلقه الله تعالى لنا من أجل أن نتنعَّم به ونشكر الله تعالى عليه:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)
(سورة البقرة)

ماذا في الأرض؟ البحار في الأرض، الأرض هنا ليست اليابسة، بل الكرة الأرضية، والجبال في الأرض، والحيوانات في الأرض، والنباتات في الأرض، والأسماك في الأرض، والطيور في الأرض، والحشرات في الأرض، وكل شيءٍ خلقه الله تعالى خلقه لنا، (خَلَقَ لَكُم) لمن خلقها؟ لنا من أجل أن نتنعَّم بها ونستفيد منها ونشكر الله عليها.

الله جلَّ جلاله ليس كمثله شيء:
قال: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ) السماء خُلِقت ثم الأرض ثم استوى ربنا إلى السماء جلَّ جلاله، وهنا نقول استوى استواءً يليق بعظمته، فلا ندخل في هذا الأمر كما يدخل بعض المتكلمين، ولا كما يدخل بعض المُجسمين والعياذ بالله، فالله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، فاستواءه ليس كاستوائنا، لا نقول إنَّ استواءه كاستوائنا حاشا لله، ولا نُكيّف هذا الاستواء فنقول استوى، معاذ الله، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، الله أعلم كيف استوى جلَّ جلاله إلى السماء.

معجزة الله في خلق السماوات والأرض:
(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فجعل السماوات سبعاً، واليوم في العلوم الحديثة كثيراً ما تُبيِّن هذه الطبقات التي هي طبقات السماء، وقال بعضهم: بل سبع سماواتٍ هي للتكثير كما في لغة العرب، اليوم الأم تقول لابنها أحياناً قلت لك سبعين مرةً لا تفعل ذلك، وتكون قد قالت له مرتان أو ثلاث، فالسبع أحياناً تأتي للتكثير.

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80)
(سورة التوبة)

على كلٍّ السبع سماوات إمّا أنها على الحقيقة، وهذا ما يُثبته كثيرٌ من علماء اليوم، وإمّا أن تكون على التكثير فهي سماواتٌ كثيرة، فالله تعالى جلَّ جلاله خلق الأرض وخلق السماء وما بينهما، والسماء وما فيها، والأرض وما فيها، وما بينهما، أقرب نجم ملتهب إلى الأرض، يبعُد عنّا أربع سنوات ضوئية، نحتاج إلى أن نصل إليه بمركبةٍ أرضية.
يعني لو تخيِّلنا أننا عبَّدنا طريقاً من الأرض إلى أقرب نجمٍ مُلتهِب يبعُد عنّا أربع سنواتٍ ضوئية، نحتاج إلى خمسين مليون سنة من سنوات عمرنا لنصل إليه، فتخيَّل كيف سنصل إلى نجمٍ يبعُد عنّا عشرين مليار سنة ضوئية! أربع سنواتٍ ضوئية تحتاج إلى خمسين مليون سنة، الشمس تبعُد عنّا ثمانِ دقائق ضوئية، مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، القمر يبعُد عنّا ثانية ضوئية ثانية واحدة، إلا قليلاً، ثلاثمئة ألف كيلو متر، فتخيَّل هذه الأبعاد وتلك الأجرام وتلك السماوات وهذا كله في السماء الدنيا التي نراها نحن، أمّا السماوات السبع وما فيها فالله أعلم بها، نحن ما رأينا إلا السماء الدنيا، ننظر فنرى فيها من النجوم، قال تعالى:

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)
(سورة الواقعة)

فأين نحن من السماء؟ وأين نحن من خلقِها؟ حتى يأتي أحدنا فيقول كيف استوى الله تعالى إلى السماء؟! وهل أنت تعرف ذات الله حتى تسأل عن الكيف؟ دعك من ذلك، لذلك الإمام مالك قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، دعكم من ذلك، الله تعالى استوى إلى السماء كما يليق بعظمته جلَّ جلاله وانتهى الأمر.
(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بكل شيءٍ جلَّ جلاله، علمه وسع كل المخلوقات، علِم ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فكل شيءٍ في الأرض وفي السماء يعلمه جلَّ جلاله، و

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)
(سورة طه)

و:

إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ(7)
(سورة الأعلى)

فيعلم كل شيءٍ جلَّ جلاله، فإذا أيقن العبد أنَّ الله تعالى عليمٌ بكل شيءٍ، استقام على أمره وضبط حتى نيَّته، فلا ينوي إلا الخير، ولا يفعل إلا الخير، ولا يتحرَّك إلا إلى خير، ولا يخطو إلا إلى معروف، ولا يحرِّك يده إلا في معروف (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) جلَّ جلاله.
إذاً هذا الإله العظيم الذي خلقنا وأماتنا، وأحيانا، وخلق لنا ما في الأرض جميعاً، وما في السماء، وهو يعلم كل شيءٍ، كيف تكفرون به؟! ليس من العقل ولا من المنطق أن يكفر الإنسان بخالقه، ولا بنعمة خالقه، بل ينبغي أن يؤمن وأن يخضع لمنهج الله تعالى، حتى يستحق البِشارة التي بدأت بها هذه الصفحة القرآنية من سورة البقرة.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافِنا واعفُ عنّا، واجعلنا أهلاً لجنَّاتك جنَّات الخلود.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنّا، آثرنا ولا تؤثِر علينا، ارضِنا وارضَ عنّا، اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل التفرُّق من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منّا ولا معنا شقيِّاً ولا محروماً، والحمد لله ربِّ العالمين.