وجدان ووجود

  • الحلقة 27
  • 2023-04-18

وجدان ووجود

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(59)
(سورة الأنعام)

السلام عليكم:

قاعدة مهمة جداً في فهم الغيب:
عدم وجدان الشيء لا يستلزم نفي وجوده
قاعدةٌ منطقيةٌ تحل إشكالاً كبيراً في علاقة الناس بالغيب، يقولون: "عدم وجدان الشيء لا يستلزم نفي وجوده"، ضاع هاتفك الجوال وهو مغلق في مكان ما في البيت الكبير، وبحثت عنه كثيراً فلم تجده، عدم وجدانك له لا يعني أنه غير موجود، أنت لم تجده، لكنه موجود في مكان ما من هذا البيت، فعدم وجدان الشيء لا يستلزم نفي وجوده، قد لا نجد الكهرباء برؤية العين، ولكننا لا ننفي وجودها؛ لأننا نرى آثارها، ربما لا نستطيع أن نرى الفيروسات بأعيننا، ولكننا لا ننفي وجودها لأننا لم نجدها، هذه القاعدة مهمة جداً في فهم الغيب، الملائكة غيب، موجودون لكننا لا نجدهم، لكن نؤمن بوجودهم، قال تعالى:

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)
(سورة الرعد)

فالملائكة موجودون:

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(سورة فاطر)

فهم موجودون ولهم أجنحة، ولهم مهمات مُوكَلةٌ بهم.
الجن لا نجدهم، لكنهم موجودون، لأن الله تعالى أخبرنا بأنه خلق الجن والإنس،

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(سورة الذاريات)

أخبرنا أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إلى القرآن الكريم، وآمن بالإسلام من آمن، وكفر به مَن كفر، فهم عالم موجود، وإن كنا لا نجدهم، يقول تعالى:

بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
(سورة يونس)

القرآن الكريم فيه من الغيب الكثير
يعني هنا القرآن الكريم، والقرآن الكريم فيه من الغيب الكثير، وجود الغيب فيه وعدم وجدانهم له كذبوا به؛ لأنهم لم يحيطوا به علماً، ما عندهم علم، لأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، فكذبوا بالقرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ ما هو تأويله؟ تأويله: وقوع وعده ووعيده، وقوع وعده للمؤمنين بالجنة، ووقوع وعيده للكافرين بالنار، وقوع وعده للمؤمن بالحياة الطيبة، ووعيده للمُعرِض عن ذكره بالمعيشة الضنك، وقوع وعده بالجنة لمن أطاعه، وبالنار لمن عصاه، هذا الوعد وذاك الوعيد واقع لا محالة، لكنهم كذبوا به لأنهم لم يجدوه، قال: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ فالتأويل هو وقوع الوعد والوعيد، من المآل، مما يؤول إليه الشيء، أنه سيقع في محصلة الأمر، لكنهم كذبوا به لأنهم لم يحيطوا بعلمه، فالملائكة موجودون، والجن موجودون، والوعد موجود، والوعيد موجود، ولكنه خبر، ولكنه غيب، ولا يثق بالغيب إلا المؤمن.
قيل لأحد السلف الصالح: هل وجدت في القرآن قول من قال: من جهل شيئاً عاداه؟ قال: نعم، في موضعين:
الأول: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ من جهل شيئاً عاداه، وقفوا موقف العداوة من القرآن الكريم؛ لأنهم ما أحاطوا به علماً، ولأنهم لم يؤمنوا بما فيه من الغيب.
والموضع الثاني:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
(سورة الأحقاف)

لمّا لم يهتدوا بالقرآن الكريم، ولم يسيروا على هديه، ولم يؤمنوا بما جاء فيه إيماناً غيبياً ولو لم تره أعينهم، فقالوا: هذا إفك قديم.
من جهل شيئاً عاداه، احفظوا القاعدة: "عدم وجدان الشيء لا يستلزم نفي وجوده"، فكثيراً ما نؤمن بأشياء بأنها موجودة حتماً وإن لم نجدها حِسّاً.
إلى الملتقى، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.